الاثنين، 30 أغسطس 2010

زماننا يبحث عن علي (ع)

بسم الله الرحمن الرحيم
عظم الله أجورنا و أجوركم بمصابنا بأبينا أمير المؤمنين (ع)

هناك في أرض الغريّ ، ترى الزائرون يقفون وقفة الإجلال و الإحترام امام ضريح يرقد فيه من كان للعدل صوته الأعلى ، و للسلام عاصفته الهادرة ، و للفضيلة عنوانها ، و للقيادة رمزها . الإنحناء و الإجلال يكون فقط لمن ضرب اروع الأمثلة في أصول القيادة و العدل . نقف امام ضريحه لنردد البيعة له يومأً بعد يوم ، و نأسف على عدم لحاقنا به ، و حرى بنا أن نفتخر به ، فهو الذي بلغ مراتب الكمال في جميع أمور حياته.

و من أجمل ما نذكر به علياً (ع) هو قيادته المثلى لدولة الإسلام ، فهو الذي بلغ مراتب الكمال في هذه القيادة و الأمرة ، فإدارته لأمور العباد ، و حكمه و مو اعظه في أمور الحكم كانت أشبه ما يكون بالدستور الأمثل لأي قائد يطمح في نيل الكرامة و النجاح في ما يصبو اليه. فنراه (ع) يقول لعامل له
"سياسة النفس أفضل سياسة ، و رياسة العلم أشرف رياسه" ، و يخطب لجمع آخر من الناس فيقول "عنوان العقل مداراة الناس" ، و في موقف آخر ، نراه يضع أصلاً للقيادة فـ"العدل نظام الإمرة" ثم يحذر من بعض آفات الحكم فيقول "الأمور المنظمة يفسدها الخلاف" ، و من ثم يضع حلاً للخلاف فيدعو الناس إلى الإنصاف بقوله " الإنصاف يرفع الخلاف و يوجد الإئتلاف". نعم .. فقد كان العدل سجيته ، و الإنصاف ديدنه .

بعد مقتل الخليفة الثالث ، كان المسلمين مع عهد جديد من القيادة ، فبعد أن إنتشر الظلم في البلاد الإسلامية ، و أصبحت الأمجاد و المناصب توزع كما الدرهم و الدينار ، و عاث الفساد الإداري في أرجاء ولايات الدولة الإسلامية، أتى علي (ع) ليقوّم إعوجاج المفاهيم و يعيد العدل و المساواة بين الناس ، و يذكّر الناس بميزان الأفضلية عند رب العباد و هو التقوى ، و يزيل جميع العادات الجاهلية من التعصب القبلي و الظلم الذي عاد إلى المجتمع الإسلامي بعد أن عاث بني أمية الفساد في فترة خلافة الخليفة الثالث. فيبدأ عهد حكمه بإزالة جميع
الولاة الظالمين من على المدن الإسلامية. و من ثم بدأ بتوزيع الرواتب على المسلمين و كما ذكر التاريخ كانت ثلاث دنانير لكل مسلم ، حراً كان ام عبداً ، رجلاً كان أو إمرأة، عربياً أم أعجمياً ، حتى هو (ع) ، فقد أستأثر لنفسه ثلاثة دنانير عندما قال لطلحة و الزبير "والله ما أنا في هذا المال واجيري الا منزلة سواء" عندما بدأوا بطلب الإمتيازات بحكم قرابتهم و سابقيتهم للإسلام. و يحدثنا التاريخ كيف أنه انفق ما في بيت مال المسلمين من ذهب و فضة على فقراء المسلمين و كنس ارضيته و جلس في وسطه يصلي لربه ركعات.

العدالة تصل إلى ذروتها عندما تكون شديدة حتى مع ذوي القربى ، ففي الوقت الذي كانت المناصب توزع على بني أمية فقط لقرابتهم من الخليفة الثالث ، نرى علياً (ع) يحطّم هذه الأفكار الجاهلية بأروع أمثلة العدل و المساواة حتى مع أقرب الناس إليه. فهذا عقيل بن أبي طالب ، يأتي إليه و هو (ع) جالساً في بيت المال و يطلب منه بعض الزيادة في العطاء بسبب فقره الشديد ، فيحمّ (ع) حديدة و يدنيها إلى يد عقيل ليتعض منها و يقول له
"
اتئنّ من حديدة احماها انسانها للعبه وتجرنى الى نار سجرها جبارها لغضبه" . و نراه (ع) ينهي أحد بناته عن عقد لؤلؤ إستعارته من بيت المال عارية مضمونة لتتزين بها في العيد و يأمرها بإعادتها و يقول "يا بنت علي بن أبي طالب لا تذهبي بنفسك عن الحق، أكلّ نساء المهاجرين تتزيّن في هذا العيد بمثل هذا؟ " . هذا هو عدل الأنبياء ، و الإنصاف الإلهي الذي كان شعاراً لدولته (ع).

أما في النظام الإداري ، فقد وضع أمير المؤمنين اسس الأنظمة الإدارية المثلى في الدولة الإسلامية. فقد كان النظام الإداري في دولته نظاماً لامركزياً يحترم الإنسان و يقدّر كفائته. فقسّم الإدارة المالية و أمور الديوان و القضاء و غيرها من الأمور الإدارية على صحابته الأخيار و على أصحاب الكفاءات. فكان أبو رافع مولى رسول الله خازن بيت المال في الكوفة ،و زياد بن أبيه في البصرة. و أما الديوان ، فكان لتسجيل أسماء الجند و ما يتعلق بالعطاء و للخراج و غيرها من أمور المسلمين. بالإضافة إلى العمّال الذين كان يعينهم علي (ع) على رأس كل ولاية من أمثال عبدالله بن عباس الذي كان والياً على واليه على البصرة. و هناك أيضاً التقسيم الإداري للمدن الكبيرة أمثال البصرة و الكوفة و وضع على كل قسم اميراً حتى يسهل إدارتها. و ما يميز عهد أمير المؤمنين انه كان اول من وضع ولاية للمظالم في الإسلام الذي كانت بمثابة محكمة الإستئناف العليا في زمننا المعاصر ، و قد تصدى بنفسه لهذه المهمة في حل المنازعات التي يكون القضاء طرفاً فيها. إضافة إلى ولاية للمظالم ، كان أمير المؤمنين اول من وضع نظاماً للشرطة و هم الذين يعتمد عليهم في استتاب الأمن و حفظ النظام و كان جهازاً متطوراً أسماه أمير المؤمنين بشرطة الخميس. و فوق هذا كله ، كانت هناك المحاسبة المستمرة على كل شاردة و واردة من قبله (ع) على جميع أمور الدولة ، فقد بعث إلى أحد ولاته
"أما بعد ، بلغني عنك أمر ان كنت فعلته فقط أسخطت ربك و عصيت إمامك و أخزيت أمانتك ، بلغني أنك جردت الأرض فأخدت ما تحت قدميك و أكلت ما تحت يديك ، فارفع إليّ حسابك و اعلم ان حساب الله أعظم من حساب الناس". و في عهده إلى مالك الأشتر (رض) عندما أراد أن يوليه مصر دستوراً كاملاً لحقوق الإنسان و الدولة فيرجى مراجعة هذا العهد لما تحتويه من مفاهيم إدارية عظيمة.
إننا نجد في هذا النظام الصفة الإنسانية في كل خطوة ، و الروح الجماعية و إنه لم يقم على الروح الفردية ، بالإضافة إلى الهدف الأسمى لهذا النظام و هو تربية الإنسان و تهذيبه بالتهذيب و التربية الرسالية و التي تنعكس على روح الإسلام.

عندما يهتم
الإنسان بغاية واحدة و هي رضا الله تعالى ، و يبتعد عن مطامع الناس ، و لا يهتم بأمور و زخارف الدنيا ، تصبح الدنيا عنده بالية حقيرة اقرب ما تكون إلى" حبة في فم جراد" أو حتى "كعفطة عنز" ، و عندها سيكون همه الوحيد هو إحقاق الحق و دحض الباطل كما قال علي (ع) لإبن عباس و هو يقصف نعلاً بالية له "
يابن عباس أترى لهذه النعل إنّها أعظم من إمرتكم هذه إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً" ، و هو القائل : "والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته" فقد كان العدل غايته ،أما الحكم فلم يكن إلّا وسيلة. أما أعدائه الذين كانوا يلهثون وراء ملذات الدنيا ، فكانت غايتهم الحكم و السلطان حتى إننا نرى معاوية و بعد أن استكمل خططه في السلطة يدخل الكوفة و يصعد على منبر علي (ع) و يقول للقوم " إني لم أحاربكم لكي تصوموا أو تصلوا و إنما حاربتكم لأن أتآمر عليكم ..!". و مع كل هذا ، نرى كيف أن أصحابه لم يكونوا يجرؤون على النظر في وجهه من هيبته و سؤدده ، فيقول صعصة بن صوحان : " كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، و شدة تواضع و سهولة قياد ، و كنا نهابه مهابة الأسيرة المربوط للسياف الواقف على رأسه". و قول ضرار بن ضمرة لمعاوية و هو يصف أمير المؤمنين بعد إستشهاده "و كان و الله يجيبنا إذا دعوناه و يعطينا إذا سألنا و كنا و الله على تقريبه لنا و قربه منا لا نكلّمه هيبة و لا نبتدئه لعظمه في نفوسنا ، يبسم عن ثغر كاللؤلؤ المنظوم".
علياً (ع) كان الفاصل و الفاروق بين الحق و الباطل ، فهو الصراط المستقيم ، و ما سواه ليسوا إلأ أبواقاً تهتف و تزيّن الباطل في أعين الناس. فهو مع الحق ، و الحق معه ، و هو ميزان المؤمن من المنافق ، و قسمة الجنة و النار بيده في يوم الحساب.

قد كان علي بن أبي طالب (ع) يعيش في زماناً لا يقبل الحق ، و بين أناسٍ أعمتهم المطامع و الرشاوي عن التمسك بالصراط المستقيم ، فأمثال سلمان و عمار و أباذر ، كانوا قد إنتقلوا إلى بارئهم ، فهذا عمار الذين وقف بين الصفين و وضع سيفه على بطنه و قال
" و الله إنك تعلم لو كان رضاك أن تغمد هذا في بطني حتى أخرجته من ظهري لفعلته" . أما بقية الناس ، فلم يكونوا مثل عمار.

" أنهم أصبحوا لا يفهمون أهداف رسالته ، و من أمرّ ما يمكن أن يقاسيه زعيم أو قائد أن يعيش في جماعة لا تتفاعل مع فكرياً ، و لا تعيش أهدافه و لا مع خطه ، مع انسان يبذل كل ما لديه في سبيلهم ، و هم لا يحسون أن كل هذا في سبيلهم ، و انما يشكون في ، في نيته ، هذا هو الإمتحان العسير الذي قاسه أفضل الصلاة و السلام عليه ، لكن بالرغم من كل هذا الإمتحان يحاول أن يبث من روحه الكبير في هذا المجتمع المتفتت الذي بدأ يشط ، و الذي بدأ يتوقف. و كان يحاول أن يبث فيهم من روحه الكبير ، إلى أن خر شهيداً في مسجد الكوفة." (أهل البيت .. تنوع أدوار و وحدة هدف ص113)


و نحن الآن ، أحوج ما نكون إلى قيادات اسلامية غراء تستمد روحها و أهدافها من سيرة عظيم الإسلام علي بن أبي طالب و تتصف بصفاته و تستمد منه خصال العدل و المساواة و السلام. و أن نتخذ نحن سيرته الغراء عِبرة قبل أن تكون عَبرة ، و أن لا يكون فقط مدعاة للفخر ، و حري بنا أن نفخر به ، فهو (ع) لا يريد أناساً تلهج بإسمه ليل نهار بلا حركة أو رسالة أو هدفية ، و لكن كما أرادنا أن نكون .. "أعينوني بورع و إجتهاد ، و عفة و سداد".
و يبقى اللسان كلّا عاجزاً ذليلاً أمام عظمتك يا أبا الحسن ..!!

المصادر :
1- نهج البلاغة – الشريف الرضي (قدس سره)-
2- الإدارة و النظام الإداري عند الإمام علي – د.محسن باقر الموسوي (حفظه الله) -
3- أهل البيت .. تنوع ادوار و وحدة هدف – المرجع الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) -
4- علي .. الشخص و الشخصية (محاضرة) – السيد هادي المدرسي (حفظه الله) -

و الله الموفق
.،.