الأحد، 3 أكتوبر 2010

حدثني جعفر بن محمد (ع)

بسم الله الرحمن الرحيم

إن إختلاف الأوضاع الإجتماعية التي عاصرها إئمة أهل البيت و قرنين من الزمان منذ بعثة الرسول الأكرم إلى وقت الغيبة الكبرى كانتا كفيلين بخلق أدوار متنوعة لكل إمام على حسب الفترة الزمنية التي كان يعاصرها.
فأمير المؤمنين (ع) كان قد خلق نهجاً في الحكم و القضاء و الشجاعة من خلال سنين حكمه الأربعة بالإضافة إلى الحروب الثلاث التي خاضها ، و من الحسن (ع) أخذ المسلمون مبادئ الصلح و السلم و التضحية في سبيل الوجود الإسلامي و مروراً بالحسين (ع) و القيام بالثورة الإصلاحية . أما الروح الدينية و العبادة و الدعاء فكانت من أجمل ما أهداه زين العابدين (ع) للمجتمع الإسلامي و من بعده ابنه الإمام الباقر (ع) الذي وضع أصول الفكر لمختلف العلوم الإسلامية.

أما الإمام جعفر الصادق (ع) ، فقد كانت حياته في فترة زمنية حساسة من التاريخ الإسلامي ، اذ كانت فترة إنتقالية من حكم الدولة الأموية إلى عصر جديد للأمة الإسلامية بقيادة بني العباس، و هذا ما خلق جواً مشحوناً بالثورات المسلحة التي كان يقودها بعض من بني هاشم من أمثال ثورة الحسين صاحب فخ و حركة الزيديين بالإضافة الثورات التي كان يقوم بها أحفاد الإمام الحسن (ع).
أما الوضع الثقافي ، فلا يقل خطورة عن الوضع السياسي التي كانت تسير فيه الدولة ، فالفتوحات المتلاحقة سببت اجتكاكاً جديداً للأفكار الإسلامية بالنظريات الأخرى ، كما امتزجت الكثير من الثقافات الدخيلة مع الثقافة الإسلامية و بما أن أغلب المسلمين لم يكونوا قد تفهموا الإسلام تفهماً قويماً فقد خلقت هذه الموجة مجتمعاً حديثاً إمتزج فيه المتأثر العميق بهذه الثقافات مع المنحرف الكامل عن الإسلام، هذا بالإضافة إلى موجة الإلحاد التي اصطدمت بالعالم الإسلامي.
هنا برز الدور الرسالي للإمام جعفر الصادق (ع) في سبيل إنقاذ الأمة الإسلامية من أزمتها السياسية بالإضافة إلى الأزمة الثقافية و العقائدية.

أما في الجانب السياسي فيحدثنا التاريخ كيف أن الإمام الصادق (ع)
كان يقوم بدور التوجيه و التخطيط للكثير من الثورات التي قام بها بنو هاشم إزاء الحكم الظالم و لكن بسرية تامة تحت مبدأ التقية التي كانت الدعامة الثابتة في قيادة الأئمة. فقد روي عنه (ع) "إنه ليس من احتمال امرنا التصديق و القبول به فقط. من احتمال امرنا ستره ، و صيانته من غير أهله ، فإقرأهم السلام وقل لهم: رحم الله عبداً اجترّ مودة الناس إلى نفسه، حدثوهم بما يعرفون ، و استروا عنهم ما ينكرون.."
الكافي 3\222

فقد كان الصادق (ع) يؤيد حركة محمد ذا النفس الزكية بالإضافة إلى بكاءه و نعيه لعمه زيداً الشهيد الذي ثار على الدولة الأموية. حتى ان الكثير من الثورات قد قام بها بعض من من تربوا في حجر الإمام الصادق (ع) من أمثال يحيى بن عبدالله الذي كان كان من أصحاب حركة (فخ) بالإضافة إلى إبن الإمام الصادق (ع) الذي قاد بنفسه أكبر حركة و ثورة ضد الدولة العباسية و هو إسماعيل.

و بعيداً عن الثورات المسلحة ، فقد كان الإمام الصادق (ع) يسيطر على الكثير من اجزاء الدولة الإسلامية ، و ان كانت عن طريق ولاتها ، الذين كانوا من الموالين . فعلى سبيل المثال ، كان والي الأهواز من المجاهرين بالتشيع حتى إن الإمام الصادق (ع) كان قد كتب له تنظيمة إدارياً للحكم أشبه ما يكون إلى كتاب أمير المؤمنين (ع) لمالك الأشتر.
كل هذا لم يمنع الإمام جعفر الصادق (ع) من بيان مواقفه الصارمة إتجاه الحكم الجائر كما في جواب رسالة المنصور الدوانيقي عندما أرسل إليه يقول : "ألا تغشانا كما يغشانا الناس؟" ، فكان جواب الإمام :
"ليس لنا ما نخافك من أجله ، و لا عندك ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنيك ، و لا نراك في نقمة فنعزيك ، فما نصنع عندك؟".

إن أكثر ما تٌعرَف به سيرة الإمام الصادق (ع) هو دوره المؤثر في خلق الوعي الثقافي في الدولة الإسلامية من خلال جامعته التي كانت تربوا على أربعة آلاف طالب ، حتى ان الشخص كان يدخل مسجد الكوفة و يرى اكثر من تسعمائة شيخ كلهم يقولون (حدثنا جعفر بن محمد ). و قد كانت جامعته تحتوي على منهاج تعليمي متطور يتضمن العديد من التخصصات العلمية. هذا بالإضافة الى وجود العديد من الإختصاصيين الذين كانوا من تلامذة الإمام (ع) ، كهشام بن الحكم في المباحث العقائدية و زرارة في الفقه و جابر بن حيان في الرياضيات و الكيمياء. هذا و قد كان الإمام الصادق (ع) يبعث بالتلميذ الذي يرغب بدراسة تخصص معين إلى اخصائيه ، فمن كان يرغب بالمعرفة الفقهية كان يبعثه إلى زرارة و هكذا.
و لمواجهة موجة الثقافات الدخيلة و الأفكار الإلحادية، وضع الإمام الصادق (ع) ثلاث خطط حكيمة لهذا السبيل ..
:

1- تخصيص بعض من طلبته المتميزين العارفين بعلم الحكمة و الكلام و بمقاييس الإسلام النظرية للرد على الثقافات الدخيلة من خلال تبيان وجهة نظر الإسلام فيها كهشام بن الحكم و عمران بن أعين.
2- كتابة الرسائل المختصة لهذا السبيل و منها (توحيد المفضل)
3- و هي الأكثر تأثيراً ، مواجهته (ع) شخصياً لزعماء فكرة الإلحاد.

و في النقطة الأخيرة الكثير من الأمثلة التاريخية في مواجهته (ع) لزعماء الإلحاد و الزنادقة ، فقد اتاه أحد الزنادقة يسأله عن بعض الأمور العقائدية في التوحيد و النبوة :
قال: "كيف يعبد الله الخلق و لم يروه؟"
قال الصادق (ع) :
"رأته القلوب بنور الإيمان ، و أثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، و أبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب و إحكام التأليف ، ثم الرسل و آياتها و الكتب و محكماتها ، و اقتصرت العلماء على اماراته من عظمته دون رؤيته."
قال : "فمن أين أثبت انبياءً و رسلاً؟"
فأجابه الصادق (ع):
"إنما لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا و عن جميع ما خلق ، و كان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ، و لا أن يلمسوه ، و لا أن بياشرهم و يباشروه ، و يحتاجهم و يحتاجوه ، ثبت أن له سفراء عباداً يدلونهم على مصالحهم و منافعهم .. " إلى آخر الحوار.

هذه المعرفة في التوحيد و النبوة كانت تتجلى في ما روى مالك بن أنس فقيه المدينة عنه (ع) عندما قال "إذا قال
- يعني الصادق- قال رسول الله ، إخضر مرة و اصفر أخرى حتى ينكره من يعرفه" و "كان كلما هم بالتلبية - في الحج - انقطع الصوت في حلقه و كاد يخر من راحلته"
علل الشرائع 4\234

نعم ، هكذا كانت حياة زعيم مذهب أهل البيت ، و هكذا هم إئمة أهل البيت (ع) ، لم يكونوا في معزل عن أوضاع الأمة الإسلامية - سياسياً أم ثقافياً - ، بل كانوا يضعون أنفسهم في موقع المسؤولية ليستنقذوا عباد الله من الجهالة و حيرة الظلالة . فكما ورد في الزيارة الجامعة ( و موالاتكم علمنا الله معالم ديننا ، و أصلح ما كان فسد من دنيانا ). أما في ذكرى شهادة الإمام الصادق (ع) ، فلا نزداد على ما وصفه الله عزوجل في حديثه القدسي:

( سيهلك المرتابون في جعفر ، الراد عليه كالراد علي ، حق القول مني لأكرمنّ مثوى جعفر ، و لأسرنّه في أشياعه و أنصاره و أوليائه ..) الكافي 1\527

المصادر :
1- الحق المبين في معرفة المعصومين- المرجع الوحيد الخراساني (حفظه الله)-
2- أهل البيت (ع) قدوة و أسوة – المرجع محمد تقي المدرسي (حفظه الله) -

عظم الله أجوركم بذكرى إستشهاد شيخ الأئمة أبي عبدالله الصادق (ع)
و الله الموفق