السبت، 13 يوليو 2019

البدون و نحن



 25 كيلومترا هي المسافة بين منطقة الشويخ السكنية و"عشيشالصليبية. في الوهلة الأولى تخالها مسافة قصيرة، لكنها في الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. فالمسافة التي تقطعها بسيارتك بأقل من نصف ساعة هي في الواقع الفارق بين طفل تتحقق أحلامه في كل لحظة بين رفاهية عيش وطمأنينة ومستقبل مزهر، وبين طفل يرى البؤس في كل لحظة، يرى تطلعات وأمانيَ تتحول إلى كوابيس في كل يوم، ومستقبلا عبارة عن نفق مظلم، لا يجد في طرفيه النور.

هذا التفاوت الاجتماعي والاقتصادي الهائل الذي نعيشه في هذا الوطن المعطاء، بشعبه الكريم الذي لا يكاد يبلغ المليون نسمة ومساحة لا تتعدى العشرين ألف كيلومتر مربع! إن من المحزن والمثير للأسى أن يعيش بين ظهرانينا أناس أغلقت في وجوههم كل تطلعات الحياة الكريمة ولا يزالون يتجرعون المآسي في كل لحظة منذ يوم ميلادهم الأول، فلا شهادة ميلاد ولا سهولة تعليم أو توظيف بالإضافة إلى التعسف المتكرر في كل المعاملات المدنية في الدوائر الحكومية. كل هذا في أرض حباها الله بأكثر من 3 مليون برميل من النفط ينتج يومياً.

المأساة التي نتحدث عنها هي مأساة شريحة البدون أو عديمي الجنسية بمسماهم القديم. في الواقع، فإن مأساة البدون لا تقتصر على دولة الكويت، فتقارير الأمم المتحدة تشير إلى قرابة ال10 ملايين شخص من عديمي الجنسية في العالم، 93 ألفا منهم يعيشون في الكويت حسب أحد تقارير الأمم المتحدة للعام 2018. يعرف عديم الجنسية بأنه الشخص الذي لا يملك جنسية أي دولة تحت سلطة القانون، وهو ما يعانيه الكثير من إخواننا البدون في هذا الوطن الكريم. 

إن انعدام الجنسية هو مفتاح للكثير من المآسي والصعوبات التي تواجه الشخص في عالمنا المدني المعاصر، فهي بالبداية قد تعني انعدام الهوية بما يترتب عليه من مشاعر الضياع وعدم الانتماء التي قد تتولد عند الشعور بالغبن والظلم خاصة عندما تكون هذه الوثيقة هي بوابة للكثير من الفرص التي يستطيع من خلالها الشخص أن يكون فرداً معطاءً في المجتمع. إن انعدام الجنسية يعني الصعوبة في التحرك خارج وداخل البلد المعني، وصعوبة الحصول على الأوراق الرسمية من جواز سفر وهويات مدنية رسمية وشهادات ميلاد وزواج وحتى وفاة، هذا بالإضافة إلى الصعوبة في التوظيف والتعسف في الرواتب والمخصصات المالية والمادية التي تجعل من الإنسان عضواً فاعلاً المجتمع، فالهوية قد تكون في الكثير من الأحيان باباً للعطاء. 

لقد أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن "لكل فرد حق التمتع بجنسية ماوهذا التأكيد هو بالأصل إقرار بالأهمية القانونية والعملية للجنسية، ونجد من أكبر المخاطر التي قد تقع من جراء انعدام الجنسية هو ما ورد في اتفاقية عام 1954 للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والتي جاء فيها "إن انعدام الجنسية يحول بين الأشخاص وتحقيق ذاتهم وإطلاق قدراتهم مما قد يكون له آثار جد سلبية على الترابط والاستقرار الاجتماعي واندلاع توترات فئوية". 

إن قيمة الإنسان تكون بمقدار ما يقدمه لقضايا مجتمعه ومبادئه، لا فيما يحتويه من جينات وأنساب وأعراق. قيمة كل فرد تكون بمقدار عطائه وإخلاصه في الدفاع عن مكتسبات إخوانه من رفاهية عيش وحرية ومساواة وحياة طيبة، وبهذه القيمة ينبغي أن يكون مقياس انتماء الإنسان من عدمه، لا ما تحتويه الصدفة البيولوجية أو الجغرافية

في الوقت الذي يكون كل طفل في هذا العالم منجماً للخبرات والتطلعات المستقبلية إذا ما تم التنقيب عنها باستخدام التعليم الصحيح الواعي وتم استخراج ما في داخلهم من إبداع، فإن أطفال البدون للأسف عبارة عن قنابل موقوتة بما تختزنه من مشاعر الغبن والقهر في كل يوم، وفرائس سهلة لمخاطر المخدرات والأفكار المتطرفة، فما نشاهده من حالات انتحار متكررة وجرائم ما هي إلا نتاج هذا المخزون الهائل من القهر والمظالم

قبل 1400 عام ، قام أبوذر الغفاري الصحابي المعروف ببيان مخاطر الفقر . إن دعوى حقوق البدون و عديمي الجنسية هي دعوى لانتشال هذه الفئة المسحوقة من مستنقع الضياع والقهر وإدراجهم في المجتمع المدني وإشراكهم في بناء الحضارة الإنسانية. 

رسالتي الأولى إلى إخواني في الكويت من الأفراد الراغبين في نشر العدل ورفع المظالم عن إخواننا البدون. تستطيعون أن تساهموا ولو بالقليل في المساعدة، قومواً بالبحث عن مآسي إخوانكم، اطرقوا بيوتهم وابحثوا عن المتعثرين منهم، فالكثير منهم متعففون لا يسألون إلحافاً. تعرفوا على العالم المظلم الذي يعيشون فيه وساهموا ولو بالقليل في إشعال شمعة. هناك الكثير من طلبة المدارس المحتاجين لمبالغ بسيطة (لا تتعدى ال100 دينار) لأخذ شهاداتهم، وهناك الكثير من العوائل المتعطلة إيجاراتهم، ابحثوا عن المحتاج وستجدونه

أما الرسالة الثانية فهي لمؤسسات المجتمع المدني. قوموا بنشر الوعي بقضية البدون بين أطياف المجتمع، فالكثير لا يزال يجهل ظروف معيشتهم. قوموا بإقامة الفعاليات الجماهيرية من كفالة طلبة المدارس وتزويج العزاب والرعاية بالمسنين منهم، فالأقربون أولى بالمعروف

 رسالتي الثالثة إلى نواب مجلس الأمة. نعلم أن شريحة البدون ليس من ورائها أصوات ولا ناخبون، لكنهم لا يزالون أفرادا في هذا الوطن، وعليكم مسؤولية الدفاع عنهم والمساهمة في وضع تشريعات تضمن لهم حياة كريمة طيبة بعيداً عن التكسبات السياسية، وأحد أهم هذه القرارات بنظري هو العودة إلى مسمى (عديمي الجنسية) بدلا من (المقيمين بصورة غير قانونية) مع الدفع بحكومة الكويت للتوقيع على اتفاقية 1956 و 1961 من الأمم المتحدة و التي تحتوي على التوصيات المعنية بقضيتهم

أما رسالتي الأخيرة، فهي لإخوتي من عديمي الجنسية. لا يؤلم الجرح إلا من به ألم .. أنتم المعنيون بقضيتكم قبل أي فئة أخرى. عليكم مسؤولية كبيرة بنشرها في كل وسائل الإعلام المتوفرة، فمن رحم المعاناة يتولد الإبداع. عليكم بكتابة الروايات الأدبية، وإنتاج الأفلام الوثائقية وإقامة المعارض الفنية وغيرها. 

لم أتطرق في الكلمات الماضية لمختلف الجوانب القانونية من شروط الجنسية والتجنيس لما تحتويه من جدل لا طائل منه، ابتداء بدعاوى إحصاء 1965 مرورا بما يعرف بالتجنيس السياسي وانتهاء بتجنيس ما بعد الغزو. لا أحب التطرق لمثل هذه الدعاوى بسبب استخدامها من قبل الكثير في خصوماتهم السياسية، هذا بالإضافة إلى إيماني التام أن الشاب من فئة البدون الذي ولد وعاش في الكويت ولم يعرف وطناً غيره منذ يوم ولادته لا يجب أن يحمل على عاتقه ترسبات الصراعات السياسية السابقة في القرن الماضي، فبالنهاية من يملك القانون في أوطاننا يملك حق عزفه

***
بعض الهوامش : 
1- إتفاقية 1961 بشأن خفض حالات إنعدام الجنسية 
2- إتفاقية 1956 بشأن حماية حقوق الأشخاص عديمي الجنسية 
3- قصيدة ملامح بعد البين - بدر الدريع 
4- معرض فني للرسام عبدالرحمن بولند 
5-TedX Talk : Nowhere People : Exposing Portraits of the world Stateless people 
6- صفحة الروائي الكويتي -البدون- الراحل ناصر الظفيري 

بو حواء
13\7\2019





الاثنين، 10 يونيو 2019

في ذكرى العم بو حسن




الإنسان في هذه الدنيا في مسيرة كدح و تعب، يسعى ليل نهار بحثاً عن الأمجاد، يبحث عن السعادة و الطمأنينة، عن الجاه و العز و الذكر الصالح بين الناس ..
هناك من ينجح و الكثير من تراه يتخبط في هذه السير فلا يعلم من أين تكون هذه السعادة وكيف السبيل الى قياسها و رؤية آثارها ..
بين الحينة و الاخرى .. تجد بعضاً من الأشخاص الذين يخيل عليهم أنهم عرفوا المعادلة حق معرفة  .. فعلموا أن هذه الدار الفانية لا تكون السعادة فيها إلا بترك ما فيها .. و ان يكون :
"بُشره في وجهه ، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدرا و أذلّ شيء نفساً"
فلا يذكره الناس إلا ضحوكاً مستبشراً .. ولا تكتمل هذه السعادة إلا بالعمل بين الناس .. و أن تكون :
"نفسه منه في تعب والناس منه في راحة" ..
هذه السعادة التي تبقى ولا تفنى ..

أما ثمرة هذه السعادة، تجدها في خدمة الحسين (ع) ، و بها تنال سعادة الدارين ، هذه الخدمة التي بها تنال عزاً بلا تكلف و محبة في قلوب المؤمنين بلا تزلف ..

رحمك الله يا عمي الغالي با أبا حسن ..
كنت مصداقاً لكل ما قيل، ضحوكاً مستبشراً ، متواضعاً محباً للغير، تنشر الفرح بين الناس بلا تكلف..
لطالما كنا نسمعك تردد "اليكي يا دنيا عني" .. بإسلوب مرح و لكنك في نفس الوقت تطبقها عملياً من غير سعي خلف رفعة أو سمعة ..

كنت نعم الخادم لسيد الشهداء (ع) .. فلا أكاد أعرف مجلساً حسينياً إلا ولك فيه بصمة واضحة، و أي فخر أن يقرن اسمك بمجلس يذكر فيه اسم الحسين (ع) ..
و كنت مثالا لكلمة رسول الله (ص) :
"خادم القوم سيدهم" .. محبا لعمل الخير وخدمة الإخوان بكل اخلاص و جد ..

شاء الله أن يخطفك الأجل منا سريعاً و من دون سابق إنذار .. وشاء عزوجل أن تختم حياتك و انت في عمل الخير متفقداً للأيتام .. ليستقبلك أبو الأرامل و الأيتام أمير المؤمنين (ع) ..

أحببت زيارة الحسين و خدمته فكان الجزاء مجاورة الحسين في مثواك الأخير ..

ربح البيع عميَ الغالي .. متأكدا انك شاهدت ثمن هذه الدنيا في يومك في دار البقاء .. و ستبقى ذكراك تتجدد في كل ليلة جمعة و نحن نستذكر رسائلك الأسبوعية التي كنت تذكرنا فيها بزيارة الحسين (ع) ..

أسأل الله أن يلهم اهلك الصبر على المصاب و أن يتغمدك بواسع رحمته مع النبي و آله و اللقاء ان شاءالله عند سيد الشهداء (ع) ..

..

بو حواء
٣/٥/٢٠١٩

الثلاثاء، 4 يونيو 2019

السير إلى علي

السير إلى علي (ع)


وجدت نفسي واقفاً ذات يوم في ساحة حرم الإمام علي (ع) في النجف مذهولاً بما أرى من جمال و جلال، أسبح بفكري في مقام هذا الإمام العظيم متسائلاً كيف السبيل إلى مخاطبته و رؤيته رأي العيان.
أذكر سابقاً أني سمعت في بعض الآثار انه اذا ارد العبد مخاطبة ربه فليقم للصلاة و ان اراد سماع كلام ربه فعليه بقراءة القرآن . و هنا و أنا واقف أما ضريح علي (ع) تذكر مقالته "تكلموا تعرفو فإن المرء مخبوء تحت لسانه".
 و بهذا قد هداني علي إلى الجواب ؛ فلا سبيل إلى رؤيته إلا بقراءة آثاره و كلماته. و رحم الله الشريف الرضي الذي اختصر علينا المشوار بإعداده للسفر العظيم -نهج البلاغة- بما يحويه من نفائس الآثار من ذلك الإمام الذي لم يجد غيره "يطأ بنا الطريق و يرشدنا السبيل عندما يدبر من الدنيا ما كان مقبل"
فكان القرار بالبدء برحلة بقراءة النهج، ذهبت إلى مكتبتي و قمت بإزاحة الغبار عنه و عن ضجيعيه القرآن الكريم و الصحيفة السجادية، اللذين أمسوا و للأسف شعار إفتخار لا إعتبار و حري بهذه الأسفار الثلاثة أن      "يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً وَ لَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ" ، و بهذه العبارة نفتتح المسير .
و إن كانت فاتحة القرآن بالحمد لله رب العالمين ، فلا يمكن أن يحيد عنها نهج البلاغة الذي افتتحه الشريف الرضي بخطبةٍ لأمير المؤمنين يقول في بدايتها "الحمدلله الذي لا يبلغ مدحته القائلون" و بُها يعرف رأس الدين و سنام المعرفة بمعالم التوحيد الخالص لله عزوجل :
" أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ ، وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ ، وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ ، وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ ، وَ كَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ"
فحري أن تكون معرفة الله كما يريد الله عزوجل لا كما تريد الأهواء البشرية و أن لا نصفه إلا بما وصف به نفسه، و على هذا المنوال تجد بقية المعارف التوحيدية في نهج البلاغة حتى يختمها علي (ع) بمقولة واضحة وردت في أواخر النهج : "التوحيد أن لا تتوهمه".
أما في غير التوحيد، فنهج البلاغة عبارة عن ملحمة إنسانية شاملة تعني بالكثير من الجوانب المعرفية و الأخلاقية و السياسية.
فتجد فيه الأحاديث عن التقوى و الصراع مع الدنيا، فتراه يدعو الناس إلى أن " يقَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ وَ طَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازِلِ" ، مع الأخذ بالتقوى حتى "تعزب عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا وَ تحلو لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا وَ تنفرج عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا" .
و مع هذا، لا تجده يدعو إلى رهبانية أو تصوف في نبذ الدنيا و زينتها فيقول لأحد أصحابه عند حديثه عن وسع داره " إنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا"
و كذلك تجد بين طيات النهج جميل الوصايا الأخلاقية و التربوية في تزكية النفس و بناء الإنسان الرباني الذي "يحاسب نفسه لنفسه" و "يعقل الدين عقل وعاية و رعاية لا عقل سماع و رواية". و بمثل هذه الوصايا عرفنا أن "قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ وَ صِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ وَ شَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَ عِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ" ، و بمثل هذه الوصايا يرتقي الإنسان في مسالك الفتوة و الإيمان.
ولا يسعنا أن نتحدث عن نهج البلاغة من دون أن نعرج نحو وصايا العدل و الإنصاف التي رسمها علي بقوله و فعله حتى أصبح ترنيمة العدل الأسمى التي ينشدها كل طالب للحق و الحقيقة. فنجد تلك الوصايا بين طيات كتبه إلى ولاته على الأمصار و خطبه التي كان يعظ بها الناس.
و بأحد وصاياه إلى ولاته نجده يقول "و ليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق و أعمها في العدل" و حتى يضع العدل في مصافه يُحذر من الهوى قائلاً " فَإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ"
و لمعرفة علي (ع) بدقائق النفس البشرية و كيف بإستطاعتها أن تخادع نفسها و تزين بعض الأعمال إذا تملكها الهوى، يضع ميزاناً صارماً في التفريق بين العدل و الجود قائلاً :
"الْعَدْلُ يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا وَ الْجُودُ يُخْرِجُهَا عَنْ جِهَتِهَا وَ الْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ وَ الْجُودُ عَارِضٌ خَاصٌّ فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُمَا وَ أَفْضَلُهُمَا"
عندما تكون الموعظة من شخص مثل إبن أبي طالب، تجدها واضحة من دون تكلف أو فضول الكلام، تخترق الأنفس من دون تزلف أو إستحياء، كيف لا و قائلها كان أعرف الناس بنفسه و على بصيرة من أمره، " لَا تزِيدُه كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِه عِزَّةً وَ لَا تَفَرُّقُهُمْ عَنِّه وَحْشَةً" ، لا يصطنع التواضع و الدعة فتجده واثقاً بنفسه من دون تكبرٍ أو إستعلاء على الغير و هو يقول في كتاب إلى أحد خصومه "فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَ خَالِكَ وَ أَخِيكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وَ ذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي وَ بِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً وَ لَا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً وَ إِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ وَ دَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ"
عندما تكون النفس الأبية عارفة بمقامها، لا تجدها تبحث عن رفعة عند الناس، حتى انها ترفضها كارهةً للإطراء و استماع الثناء، تلك النفس كانت بين جنبي أبا الحسن و هو يخاطب الناس " فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ"
عدت بخاطري إلى أرض الغري و انا اقرأ الصفحات الأخيرة من نهج البلاغة، بعد أن طويت خلالها رحلة من عظيم المعاني الإنسانية.
و أنا أشاهد مرقده المبارك خُيل إلىّ بين أحد زوايا الحرم؛ فتى الإسلام الخالد جالساً على الأرض يخصف نعله و يرقّع مدرعته، و قد طويت بين راحتيه الدنيا و ما فيها و هو يهتف قائلاً "
عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى"
.........
*  ما بين الأقواس إقتباسات من نهج البلاغة
بو حواء
29 رمضان 1440


الأحد، 17 نوفمبر 2013

رضيع الحسين (ع)

رضيع الحسين (ع)

شهدت الكويت في الآونة الأخيرة أحداث مؤسفة جرّاء التعسف التي قامت به البلدية من ازالة موكب خيمة عبدالله الرضيع الذي نصب في منطقة الرميثية لخدمة مُعزين الإمام الحسين (ع). و لوحظ بين الكثير جهل شخصية عبدالله الرضيع ، لا تقصيراً منهم. من هو المقصّر إذن ؟

إذا نظرنا نظرة سريعة إلى مناهج التاريخ الإسلامي في وزارة التربية ، سنجد ندرة في القصص و الروايات التي تذكر تاريخ أهل بيت رسول الله (ص) . بإستثناء قصة الحسن و الحسين و تعليم الوضوء التي لا أعتبرها أكثر من "ذر الرماد في العيون" .

التقصير الأول هو منا نحن أتباع أهل البيت الذين لم نبذل جهداً يذكر في تعريف الناس بسيرة الإمام الحسين و انشغلنا بذكر خلافاتنا و تسعير نار الفرقة و الطائفية و العصبية.

اما التقصير الثاني فهو من القائمين على مناهج وزارة التربية التي كان حرياّ بها أن تٌدرس قضية كربلاء و فاجعة الحسين لما لها من أهمية قصوى في تاريخ المسلمين أجمع ، شيعة و سنة .

إن حادثة مقتل عبدالله بن الحسين (الرضيع) ترسم لنا منهجين لا ثالث لهما . الأول هو منهج التفاني الخالص في سبيل الله عند الإمام الحسين ، فهو قدم كل ما يملك في سبيل الإصلاح ، حتى رضيعه.

اما المنهج الثاني هو منهج الوحشية الذي كان يمتلكها جيش الكوفة بقيادة عمر بن سعد في السعي إلى إبادة شاملة لآل بيت رسول الله و محو ذكرهم .

عندما أخذ الحسين دم رضيعه المذبوح و رمى به نحو السماء قام بمناجاة ربه بكلمات تنم عن اخلاص و تسليم تام لقضاء الله و الاستغاثة و اللجوء الكامل به عز وجل : "هوّن ما نزل بي أنه بعين الله ، اللهم إن كنت حبست عنا النصر فإجعل ذلك لما هو خير لنا".

في ظهر عاشوراء لعام 61 هـ ، كان عبدالله الرضيع أصغر القتلى بين صفوف معسكر الحسين و لكنه أصبح باباً لمعرفة عظمة تضحيات الحسين بن علي (ع) .  


الأربعاء، 13 نوفمبر 2013

علّمتنا كيف نحيا

(علَّمتنا كيف نحيا)


مال عن ظهر جواده إلى الأرض ، لم ينحني لأحد و لم يُسقطه أحد ، لكن أعياه نزف الدماء بعد أن وقف كالطود الشامخ يُجبّن الشجعان و جسده مُلطخ بدمه الطاهر ، يبث الرعب في قلوب أعداء الدين و هو وِترٌ غريب أمام عشرات الآلاف من عبد الطاغوت . وقف ذلك الموقف في صحراء كربلاء ، ليُجسد للإنسانية ما معنى الحياة .

هو الحُسين (ع) ، الذي علّم الإنسان كيف يحيا و جسده بين حوافر الخيل ، الذي وهب الحياة لمُحبيه و أتباعه و رأسه على رؤوس الرماح ، هو ذلك الشهيد الذي وقف و رسم للشهادة معنىً آخر . ذلك الشهيد الذي برهن أنه بالشهادة يبقى الإنسان.

ما هي الحياة ؟ و كيف نستطيع أن نضع معياراً لقياس الحياة عند أي فرد كان ؟  قد يعيش الإنسان مئة سنة يقوم بأعمالهم من أكل و شرب و لكن بلا حياة تُذكر ، و قد تكون بضع لحظات يعيشها الحر الرياحي ، بينه و بين نفسه ، يُخيّر نفسه بين الجنة و النار و من ثًم يُقدم نفسه قرباناً لله تعالى بين يدي الحسين ، تلك اللحظات كفيلة لكي يحيا ذكره إلى يوم القيامة تتناقل بطولته الأجيال جيلاً بعد جيل .

"أَشْهَدُ اَنَّكَ قُتِلْتَ وَلَمْ تَمُتْ بَلْ بِرَجاءِ حَياتِكَ حَيِيَتْ قُلُوبُ شيعَتِكَ، وَبِضِياءِ نُورِكَ اهْتَدَى الطّالِبُونَ اِلَيْكَ" [1]

كيف كانت بضع ساعات في نهار عاشوراء كفيلة لوضع درساً شاملاً لقيمة الحياة عند بني الإنسان ؟

وقف الحسين بكل عزة و كبرياء قائلاً "و الله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل و لا أفرّ فرار العبيد"[2] ، هنا وضع سيد الشهداء المعادلة التامة للحياة الكريمة و التي تتكون من مبداً العزة و الكرامة و الإباء بالإضافة إلى الثبات و السعي الدائم و عدم اليأس .

ينقل عن الإمام علي بن الحسين أنه قال "كنت أنظر في وجه أبي الحسين ، كلما إشتد عليه الأمر تهلل وجهه فرحاً و سرورا" ، لم تثنيه المصاعب و المآسي عن المضي قدماً في سبيل نهضته المقدسة و كان يجاهد إلى آخر ما يملك في سبيل الله عزوجل ، و كما ينقل عنه بعض الرواة "و الله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جأشاً و لا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه"[3] .

في لحظاته الأخيرة و هو متوسد التراب ، بقي الحسين على ثباته و لم تُثنيه الجراحات و أهوال الموت من هدفه الأعلى . فكان يناجي ربه ولا يستثغيث بغيره عزوجل . لم يطلب الأمان من أحد و لم يستجدي رحمة غيره عزوجل . فكان خطابه الأخير مناجاةً لربه ..

"اللهم أنت متعالى المكان ، عظيم الجبروت ، شديد المحال ، غني عن الخلائق ، عريض الكبرياء .. "[4]

هذا التسليم المطلق لله عزوجل مع الثبات و الإباء هو الذي خلّد الحسين (ع) في صفحات التاريخ و به وضع معادلة للحياة .

"فالموت في حياتكم مقهورين ، و الحياة في موتكم قاهرين"[5] ، قالها علي (ع) في صفّين عندما إستولى جيش معاوية على الماء ، سمعها الحسين و بها قهر الظالمين جيلاً بعد جيل و بقي حيّاً يُنير نفق الظلام للباحثين عن العز و المجد و الكبرياء ، و مناراً يهتدي به الطالبون إلى نهج الإباء و الكرامة و طريقاً يسلكه عُشاق الشهادة في سبيل الحق و الحقيقة .

قام الحسين  في عاشوراء  "ليُعلم النوع الإنساني أن الشهادة ليست (خسارة) بل (إختيار) "[6] ، ليعلمنا أن لا قيمة لحياة الإنسان من دون الإرادة و الإختيار ، من دون رفض الذل و العبودية ، من دون السعي إلى حرية الإنسان و تحرره من طاعة الطاغوت الى الذوبان في ذات الله .

إختار الحسين الشهادة و أقبل عليها بكل ما يملك [7] ، فكان حيّاً عند ربه [8] حتى أمسى في يوم عاشوراء و رأسه على الرمح مُعلّم الحياة الأول و علّم بني آدم بأن بالموت تكون الحياة ، و بالشهادة يكون البقاء .

                                                                                                                                                                                   
أحمد خليل لاري
ليلة عاشوراء 1435




[1]  المجلسي ، محمد باقر - بحار الأنوار 98 : 337
[2] المقرم ، عبدالرزاق – مقتل الحسين  256
[3]  تاريخ الطبري 6 : 259
[4] المقرم ، عبدالرزاق – مقتل الحسين 282
[5]  الشريف الرضي – نهج البلاغة 159
[6]  شريعتي ، علي – الشهادة 111
[7]  (أعطى  الذي ملكت يداه إلهه ، حتى الجنين فداه كل جنين)
[8]  ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) آل عمران 169

الاثنين، 11 نوفمبر 2013

العباس .. أمة في كربلاء

العباس .. أُمة في كربلاء

لم يكن إعطاء الرخصة للقتال سهلاً هذه المرة ، فلم يبقَ في معسكر آل علي إلا هو و أخوه القمر . أما بقية رجال هذه الملحمة الخالدة فكانوا صرعى على الأرض بين قتيل و صريع .

الزمان كان 61 للهجرة النبوية و المكان بين خيام بني هاشم في أرض يُقال لها كربلاء ، كان هذا الحوار :
"أخي أنت العلامة من عسكري فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات" [1] ، قالها الحسين (ع) و هو ينظر إلى أخيه العباس ، ربيب علي بن أبي طالب و فارس بني هاشم.

المعصوم لا يتكلم مجازاً ولا ينطق بفضول الكلام ،  ، أي عسكر كان يقصد الحسين ؟ لم يكن في الخيام غيره هو و العباس من المقاتلين ؟

لقد رأي الحسين في أخيه العباس جيشاً بمفرده ، قد كان جيش التوحيد في مقابل جيوش الكفر و الطغيان تحت لواء عمر بن سعد.

العباس هو تلميذ علي (ع) الذي كان يرتجز و يقول بكل كبرياء و عزة "لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ، و لا تفرقهم عني وحشة" [3] ، و هو القائل "لا تستوحشوا طريق الحق لقلّة سالكيه" [4] فكان مصداق لعزة المؤمنين المستمدة من ارتباطهم بالله تعالى . لذلك كان العباس كما وصفه الإمام جعفر الصادق "نافذ البصيرة ، صلب الإيمان"[5] .

يصف العلامة البوصيري رسول الله (ص) في قصيدته الخالدة ، "كأنه و هو فرد من جلالته ، في عسكر حين تلقاه و في حشم" .. فلا ضير أن يكون العباس تلميذاً لامعاً في مدرسة محمد بن عبدالله (ص) حتى اكتسب تلك الصفات الجليلة ، فهو الذي تربى بين يدي أبيه علي و أخويه الحسن و الحسين .

هذا هو العباس بن علي ، فارس بني هاشم ، حتى أضحى يوم العاشر من المحرم كجده الأكبر ، فارس التوحيد الأول و محطم أصنام الجهل ، إبراهيم الخليل (ع) الذي وصفه الله تعالى في كتابه "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفا"[6] . العباس كان أمةً لوحده في صحراء كربلاء ، مُحطماً لأصنام الطاغوت مجاهداً نفسه في سبيل رضا الله عزوجل [7].

السلام عليك يوم ولدت ..
و يوم استشهدت ..
و يوم تُبعث حياً فيغبطك جميع الشهداء يوم القيامة [8] ..

أحمد خليل لاري
7 محرم 1435



[1] القزويني ، محمد كاظم  (فاجعة الطف)
[2] سورة النجم 3
[3] الشريف الرضي (نهج البلاغة)
[4] المصدر السابق : الخطبة 21
[5] الشاكري ، حسين (شهداء أهل البيت ص 31)
[6] سورة النحل 120
[7] "يا نفس من بعد الحسين هوني ، و بعده لا كنت أو تكوني" (بطل العلقمي 1:11 – عبدالواحد المظفر)
[8] الصدوق ، محمد بن علي (الخصال ج1 ص 68)

الخميس، 7 نوفمبر 2013

ما رأيت إلّا جميلا

(ما رأيت إلا جميلا)

في العام الخامس من الهجرة ، أخذ الراية و ذهب مسرعاً إلى نِزال عمرو بن عبد ود . ينقل التاريخ عنه أنه كان مستبشراً و وجهه يتلألأ و هو يًسرع إلى الجهاد في سبيل الله باحثاً عن الشهادة . 
و في كل مرة يعود إلى رسول الله ، بعد ان يفتح الله على يديه الحصون و القلاع ، يعود و يقف بين يديه حزيناً و يقول "أرأيت كيف فاتتني الشهادة يا رسول الله ؟" .

ذاك هو بطل الإسلام وفتاه الأول علي بن ابي طالب (ع) الذي كان لا يرى غير جمال الله عزوجل في كل أعماله [1]. و يستأنس بالموت كإستئناس الطفل بمحالب أمه[2] ، و يرى شهادته في محراب الكوفة و خضاب لحيته من دم رأسه موطنأً من مواطن البُشرى و الشكر[3] . حتى هتف بعالي صوته (فُزت و رب الكعبة).

هذه الروح الكبيرة .. كانت في كربلاء

يقول عباس نور الدين في مقدمة كتاب "لطائف عرفانية" للسيد روح الله الخميني : "أولئك الذين اطلعوا على الكمالات من زاوية أضدادها احتاجوا إلى البحث عن أصولها و الذي أضاء الله قلبه بمعرفة الجمال قبل معرفة القبح و الكمال قبل النقص وجد الكمالات كلها نابعة من أصل واحد" [4].

هكذا كان آل محمد (ص) الذين يلغوا أعلى الكمالات في سيرهم إلى الله عزوجل و كانوا دائماً يرون الله حاضراً أمامهم في كل أعمالهم. فها هو سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (ع) يُناجي ربه في عرفة قائلاً :

"و أنت الذي تعرفت إليّ في كل شي فرأيتك ظاهراً في كل شيء" [5].

من تكن لديه هذه المعرفة التامة بالله عزوجل لا يرى في الوجود غير مظاهر جماله و جلاله . فنراه عندما أراد الإعلان عن نهضته المباركة في مكة المكرمة يقف أمام الناس و يلقي بخطبته التي تحدث فيها عن مصرعه و مقتله ، و يصف الموت كقلادة تزيّن جيد الفتاة .. "خُط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة" [6].

و بقيت تلك الروح الكبيرة تسري بجسده المبارك ، فكان يقف و يخطب في عسكر بن سعد قائلاً ، "إني لا أرى الموت إلى سعادة و الحياة مع الظالمين إلى برما" [7] . فهو (ع) سليل علي و فاطمة و ربيب محمد (ص) ، هذه الأسرة التي كانت أعظم تجليٍ لجمال الله عزوجل.

و قد ألهمت تلك الروحية عند سيد الشهداء بقية أهل بيته و أصحابه في كربلاء ، فكانوا يستأنسون بالموت كجدهم و إمامهم أمير المؤمنين. فذاك القاسم بن الحسن يقف كالجبل الشامخ و يجيب عمه الحسين بعدما سأله عن رأيه في القتل و الشهادة قائلاً : "يا عماه في نصرتك أحلى من العسل"[8]
أما أصحابه فيصفهم الحسين قائلاً : "و الله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلى الأشوس الأقعس ، يستأنسون بالمنية دوني إستيناس الطفل إلى محالب أمه"[9].

يرى بعض علماء الأخلاق أن فضيلة الصبر تأتي على مراحل و غاية الصبر و أعلى مراحله هي مرحلة الرضا التام بقضاء الله. تلك الفضيلة التي تكون نابعة من عظيم مثل الإمام الحسين بن علي و هو على رمضاء كربلاء مناجياً ربه ، "إلهي رضاً برضاك لا معبود سواك" [10] و قد أبدع السيد حيدر الحلي في رسم هذه الملحمة الإنسانية و هو يصف الحسين ساعة إستشهاده :
"ثوى زائد البِشر في صرعة ، له حبّب العزّ لقيانها" .

أما بعد إستشهاده ، فقد بقيت تلك الروحية تسري في دماء أهل بيته ، يستعينون بها زاداّ في رحلة السبي من بلد إلى بلد. في مسجد الكوفة ، تجلّت تلك المعرفة و ذلك الرضا في قلب زينب بنت علي ، فقد سجّل التاريخ بأحرف من ذهب ذلك الحوار الذي جرى بين الطاغية عبيدالله بن زياد و سليلة بيت النبوة :
"كيف رأيت صنع الله بأخيك و أهل بيتك؟" 
فأجابت ، "و الله ما رأيت إلى جميلا ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم" [11].

هؤلاء هم أولياء الله ، لا يروّن في قضاء الله إلا جميلا ، أرواحهم مُعلقة بالملأ الأعلى شوقاً إلى بارئهم . و ليست الشهادة و القتل في سبيل الله إلّا بُراقاً يعرجون به نحو مقعد صدق عند مليك مقتدر[12]، وافدين إلى حضرة جمال الله عزوجل [13].

أحمد خليل لاري
3 محرم 1435



[1] (ما رأيت شيئاً إلا و رأيت الله قبله و بعده و معه و فيه) – مسند الإمام علي (ع) ص150
[2] (و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدى امّه( - نهج البلاغة ص 100
[3] ( يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر و لكن من مواطن البشرى و الشكر) – بحار النوار 69 : 138
[4] لطائف عرفانية ص 9
[5] دعاء الحسين في عرفة – مفاتيح الجنان
[6] بحار الأنوار 44 : 366
[7] ترجمة حياة الإمام الحسين ص 315 – إبن عساكر
[8] أنجال الإمام الحسن (ع) في كربلاء – المرجع المدرسي
[9] ليلة عاشوراء في الحديث و الأدب ص 178 –عبدالله الحسن
[10] تفسير من هدي القرآن ج 12 – المرجع المدرسي
[11] بحار الأنوار 45 : 115
[12] (إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) سورة القمر 54-55
[13] (وافداً إلى حضرة جمالك ، مُريداً وجهك ، طارقاً بابك) مناجاة الراغبين | الإمام زين العابدين (ع)