25
كيلومترا هي المسافة بين منطقة الشويخ السكنية و"عشيش" الصليبية.
في الوهلة الأولى تخالها مسافة قصيرة، لكنها في الحقيقة أكبر من ذلك بكثير.
فالمسافة التي تقطعها بسيارتك بأقل من نصف ساعة هي في الواقع الفارق بين طفل تتحقق
أحلامه في كل لحظة بين رفاهية عيش وطمأنينة ومستقبل مزهر، وبين طفل يرى البؤس في
كل لحظة، يرى تطلعات وأمانيَ تتحول إلى كوابيس في كل يوم، ومستقبلا عبارة عن نفق
مظلم، لا يجد في طرفيه النور.
هذا التفاوت الاجتماعي والاقتصادي
الهائل الذي نعيشه في هذا الوطن المعطاء، بشعبه الكريم الذي لا
يكاد يبلغ المليون نسمة ومساحة لا تتعدى العشرين ألف كيلومتر مربع! إن من
المحزن والمثير للأسى أن يعيش بين ظهرانينا أناس أغلقت في وجوههم كل تطلعات الحياة
الكريمة ولا يزالون يتجرعون المآسي في كل لحظة منذ يوم ميلادهم الأول، فلا شهادة
ميلاد ولا سهولة تعليم أو توظيف بالإضافة إلى التعسف المتكرر في كل المعاملات
المدنية في الدوائر الحكومية. كل هذا في أرض حباها الله بأكثر من 3 مليون برميل من
النفط ينتج يومياً.
المأساة التي نتحدث عنها هي مأساة
شريحة البدون أو عديمي الجنسية بمسماهم القديم. في الواقع، فإن مأساة البدون لا
تقتصر على دولة الكويت، فتقارير الأمم المتحدة تشير إلى قرابة ال10 ملايين شخص من
عديمي الجنسية في العالم، 93 ألفا منهم يعيشون في الكويت حسب أحد تقارير الأمم
المتحدة للعام 2018. يعرف عديم الجنسية بأنه الشخص الذي لا يملك جنسية أي دولة تحت
سلطة القانون، وهو ما يعانيه الكثير من إخواننا البدون في هذا الوطن الكريم.
إن انعدام الجنسية هو مفتاح للكثير من
المآسي والصعوبات التي تواجه الشخص في عالمنا المدني المعاصر، فهي بالبداية قد
تعني انعدام الهوية بما يترتب عليه من مشاعر الضياع وعدم الانتماء التي قد تتولد
عند الشعور بالغبن والظلم خاصة عندما تكون هذه الوثيقة هي بوابة للكثير من الفرص التي يستطيع من خلالها الشخص أن يكون فرداً معطاءً في المجتمع. إن انعدام الجنسية
يعني الصعوبة في التحرك خارج وداخل البلد المعني، وصعوبة الحصول على الأوراق
الرسمية من جواز سفر وهويات مدنية رسمية وشهادات ميلاد وزواج وحتى وفاة، هذا بالإضافة
إلى الصعوبة في التوظيف والتعسف في الرواتب والمخصصات المالية والمادية التي تجعل
من الإنسان عضواً فاعلاً المجتمع، فالهوية قد تكون في الكثير من الأحيان باباً
للعطاء.
لقد أكد الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان على أن "لكل
فرد حق التمتع بجنسية ما" وهذا
التأكيد هو بالأصل إقرار بالأهمية القانونية والعملية للجنسية، ونجد من أكبر
المخاطر التي قد تقع من جراء انعدام الجنسية هو ما ورد في اتفاقية عام 1954
للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والتي جاء فيها "إن
انعدام الجنسية يحول بين الأشخاص وتحقيق ذاتهم وإطلاق قدراتهم مما قد يكون له آثار
جد سلبية على الترابط والاستقرار الاجتماعي واندلاع توترات فئوية".
إن قيمة الإنسان تكون بمقدار ما يقدمه
لقضايا مجتمعه ومبادئه، لا فيما يحتويه من جينات وأنساب وأعراق. قيمة كل فرد تكون
بمقدار عطائه وإخلاصه في الدفاع عن مكتسبات إخوانه من رفاهية عيش وحرية ومساواة
وحياة طيبة، وبهذه القيمة ينبغي أن يكون مقياس انتماء الإنسان من عدمه، لا ما
تحتويه الصدفة البيولوجية أو الجغرافية.
في الوقت الذي يكون كل طفل في هذا
العالم منجماً للخبرات والتطلعات المستقبلية إذا ما تم التنقيب عنها باستخدام
التعليم الصحيح الواعي وتم استخراج ما في داخلهم من إبداع، فإن أطفال البدون للأسف
عبارة عن قنابل موقوتة بما تختزنه من مشاعر الغبن والقهر في كل يوم، وفرائس سهلة
لمخاطر المخدرات والأفكار المتطرفة، فما نشاهده من حالات انتحار متكررة وجرائم ما
هي إلا نتاج هذا المخزون الهائل من القهر والمظالم.
قبل 1400 عام ، قام أبوذر الغفاري الصحابي المعروف ببيان مخاطر الفقر . إن دعوى حقوق البدون و عديمي الجنسية هي دعوى لانتشال هذه الفئة
المسحوقة من مستنقع الضياع والقهر وإدراجهم في المجتمع المدني وإشراكهم في بناء
الحضارة الإنسانية.
رسالتي الأولى إلى إخواني في الكويت
من الأفراد الراغبين في نشر العدل ورفع المظالم عن إخواننا البدون. تستطيعون أن
تساهموا ولو بالقليل في المساعدة، قومواً بالبحث عن مآسي إخوانكم، اطرقوا بيوتهم
وابحثوا عن المتعثرين منهم، فالكثير منهم متعففون لا يسألون إلحافاً. تعرفوا على
العالم المظلم الذي يعيشون فيه وساهموا ولو بالقليل في إشعال شمعة. هناك الكثير من
طلبة المدارس المحتاجين لمبالغ بسيطة (لا تتعدى ال100 دينار) لأخذ شهاداتهم، وهناك
الكثير من العوائل المتعطلة إيجاراتهم، ابحثوا عن المحتاج وستجدونه.
أما الرسالة الثانية فهي لمؤسسات
المجتمع المدني. قوموا بنشر الوعي بقضية البدون بين أطياف المجتمع، فالكثير لا
يزال يجهل ظروف معيشتهم. قوموا بإقامة الفعاليات الجماهيرية من كفالة طلبة المدارس
وتزويج العزاب والرعاية بالمسنين منهم، فالأقربون أولى بالمعروف.
رسالتي
الثالثة إلى نواب مجلس الأمة. نعلم أن شريحة البدون ليس من ورائها أصوات ولا
ناخبون، لكنهم لا يزالون أفرادا في هذا الوطن، وعليكم مسؤولية الدفاع عنهم
والمساهمة في وضع تشريعات تضمن لهم حياة كريمة طيبة بعيداً عن التكسبات السياسية،
وأحد أهم هذه القرارات بنظري هو العودة إلى مسمى (عديمي الجنسية) بدلا من
(المقيمين بصورة غير قانونية) مع الدفع بحكومة الكويت للتوقيع على اتفاقية 1956 و
1961 من الأمم المتحدة و التي تحتوي على التوصيات المعنية بقضيتهم.
أما رسالتي الأخيرة، فهي لإخوتي من
عديمي الجنسية. لا يؤلم الجرح إلا من به ألم .. أنتم المعنيون بقضيتكم قبل أي فئة
أخرى. عليكم مسؤولية كبيرة بنشرها في كل وسائل الإعلام المتوفرة، فمن رحم المعاناة
يتولد الإبداع. عليكم بكتابة الروايات الأدبية، وإنتاج الأفلام الوثائقية وإقامة
المعارض الفنية وغيرها.
لم أتطرق في الكلمات الماضية لمختلف
الجوانب القانونية من شروط الجنسية والتجنيس لما تحتويه من جدل لا طائل منه،
ابتداء بدعاوى إحصاء 1965 مرورا بما يعرف بالتجنيس السياسي وانتهاء بتجنيس ما بعد
الغزو. لا أحب التطرق لمثل هذه الدعاوى بسبب استخدامها من قبل الكثير في خصوماتهم
السياسية، هذا بالإضافة إلى إيماني التام أن الشاب من فئة البدون الذي ولد وعاش في
الكويت ولم يعرف وطناً غيره منذ يوم ولادته لا يجب أن يحمل على عاتقه ترسبات
الصراعات السياسية السابقة في القرن الماضي، فبالنهاية من يملك القانون في
أوطاننا يملك حق عزفه.
***
بعض الهوامش :
1- إتفاقية 1961 بشأن خفض حالات إنعدام الجنسية
2- إتفاقية 1956 بشأن حماية حقوق الأشخاص عديمي الجنسية
3- قصيدة ملامح بعد البين - بدر الدريع
4- معرض فني للرسام عبدالرحمن بولند
5-TedX Talk : Nowhere People : Exposing Portraits of the world Stateless people
6- صفحة الروائي الكويتي -البدون- الراحل ناصر الظفيري
بو حواء
13\7\2019