الثلاثاء، 4 يونيو 2019

السير إلى علي

السير إلى علي (ع)


وجدت نفسي واقفاً ذات يوم في ساحة حرم الإمام علي (ع) في النجف مذهولاً بما أرى من جمال و جلال، أسبح بفكري في مقام هذا الإمام العظيم متسائلاً كيف السبيل إلى مخاطبته و رؤيته رأي العيان.
أذكر سابقاً أني سمعت في بعض الآثار انه اذا ارد العبد مخاطبة ربه فليقم للصلاة و ان اراد سماع كلام ربه فعليه بقراءة القرآن . و هنا و أنا واقف أما ضريح علي (ع) تذكر مقالته "تكلموا تعرفو فإن المرء مخبوء تحت لسانه".
 و بهذا قد هداني علي إلى الجواب ؛ فلا سبيل إلى رؤيته إلا بقراءة آثاره و كلماته. و رحم الله الشريف الرضي الذي اختصر علينا المشوار بإعداده للسفر العظيم -نهج البلاغة- بما يحويه من نفائس الآثار من ذلك الإمام الذي لم يجد غيره "يطأ بنا الطريق و يرشدنا السبيل عندما يدبر من الدنيا ما كان مقبل"
فكان القرار بالبدء برحلة بقراءة النهج، ذهبت إلى مكتبتي و قمت بإزاحة الغبار عنه و عن ضجيعيه القرآن الكريم و الصحيفة السجادية، اللذين أمسوا و للأسف شعار إفتخار لا إعتبار و حري بهذه الأسفار الثلاثة أن      "يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً وَ لَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ" ، و بهذه العبارة نفتتح المسير .
و إن كانت فاتحة القرآن بالحمد لله رب العالمين ، فلا يمكن أن يحيد عنها نهج البلاغة الذي افتتحه الشريف الرضي بخطبةٍ لأمير المؤمنين يقول في بدايتها "الحمدلله الذي لا يبلغ مدحته القائلون" و بُها يعرف رأس الدين و سنام المعرفة بمعالم التوحيد الخالص لله عزوجل :
" أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ ، وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ ، وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ ، وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ ، وَ كَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ"
فحري أن تكون معرفة الله كما يريد الله عزوجل لا كما تريد الأهواء البشرية و أن لا نصفه إلا بما وصف به نفسه، و على هذا المنوال تجد بقية المعارف التوحيدية في نهج البلاغة حتى يختمها علي (ع) بمقولة واضحة وردت في أواخر النهج : "التوحيد أن لا تتوهمه".
أما في غير التوحيد، فنهج البلاغة عبارة عن ملحمة إنسانية شاملة تعني بالكثير من الجوانب المعرفية و الأخلاقية و السياسية.
فتجد فيه الأحاديث عن التقوى و الصراع مع الدنيا، فتراه يدعو الناس إلى أن " يقَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ وَ طَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازِلِ" ، مع الأخذ بالتقوى حتى "تعزب عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا وَ تحلو لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا وَ تنفرج عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا" .
و مع هذا، لا تجده يدعو إلى رهبانية أو تصوف في نبذ الدنيا و زينتها فيقول لأحد أصحابه عند حديثه عن وسع داره " إنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا"
و كذلك تجد بين طيات النهج جميل الوصايا الأخلاقية و التربوية في تزكية النفس و بناء الإنسان الرباني الذي "يحاسب نفسه لنفسه" و "يعقل الدين عقل وعاية و رعاية لا عقل سماع و رواية". و بمثل هذه الوصايا عرفنا أن "قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ وَ صِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ وَ شَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَ عِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ" ، و بمثل هذه الوصايا يرتقي الإنسان في مسالك الفتوة و الإيمان.
ولا يسعنا أن نتحدث عن نهج البلاغة من دون أن نعرج نحو وصايا العدل و الإنصاف التي رسمها علي بقوله و فعله حتى أصبح ترنيمة العدل الأسمى التي ينشدها كل طالب للحق و الحقيقة. فنجد تلك الوصايا بين طيات كتبه إلى ولاته على الأمصار و خطبه التي كان يعظ بها الناس.
و بأحد وصاياه إلى ولاته نجده يقول "و ليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق و أعمها في العدل" و حتى يضع العدل في مصافه يُحذر من الهوى قائلاً " فَإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ"
و لمعرفة علي (ع) بدقائق النفس البشرية و كيف بإستطاعتها أن تخادع نفسها و تزين بعض الأعمال إذا تملكها الهوى، يضع ميزاناً صارماً في التفريق بين العدل و الجود قائلاً :
"الْعَدْلُ يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا وَ الْجُودُ يُخْرِجُهَا عَنْ جِهَتِهَا وَ الْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ وَ الْجُودُ عَارِضٌ خَاصٌّ فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُمَا وَ أَفْضَلُهُمَا"
عندما تكون الموعظة من شخص مثل إبن أبي طالب، تجدها واضحة من دون تكلف أو فضول الكلام، تخترق الأنفس من دون تزلف أو إستحياء، كيف لا و قائلها كان أعرف الناس بنفسه و على بصيرة من أمره، " لَا تزِيدُه كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِه عِزَّةً وَ لَا تَفَرُّقُهُمْ عَنِّه وَحْشَةً" ، لا يصطنع التواضع و الدعة فتجده واثقاً بنفسه من دون تكبرٍ أو إستعلاء على الغير و هو يقول في كتاب إلى أحد خصومه "فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَ خَالِكَ وَ أَخِيكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وَ ذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي وَ بِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً وَ لَا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً وَ إِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ وَ دَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ"
عندما تكون النفس الأبية عارفة بمقامها، لا تجدها تبحث عن رفعة عند الناس، حتى انها ترفضها كارهةً للإطراء و استماع الثناء، تلك النفس كانت بين جنبي أبا الحسن و هو يخاطب الناس " فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ"
عدت بخاطري إلى أرض الغري و انا اقرأ الصفحات الأخيرة من نهج البلاغة، بعد أن طويت خلالها رحلة من عظيم المعاني الإنسانية.
و أنا أشاهد مرقده المبارك خُيل إلىّ بين أحد زوايا الحرم؛ فتى الإسلام الخالد جالساً على الأرض يخصف نعله و يرقّع مدرعته، و قد طويت بين راحتيه الدنيا و ما فيها و هو يهتف قائلاً "
عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى"
.........
*  ما بين الأقواس إقتباسات من نهج البلاغة
بو حواء
29 رمضان 1440


هناك تعليق واحد:

مصطفى المسقطي يقول...

خواطر جميلة واستشهادات مناسبة ربما تحتاج إلى بعض التعميق