السبت، 1 يناير 2011

الإمام زين العابدين (ع) و بناء الشخصية الرسالية

بسم الله الرحمن الرحيم

يحتوي التاريخ الإسلامي على نماذج عديدة من الشخصيات المتألقة في شتى المجالات ، و لكل منها دوره الذي أثرى به التاريخ الإسلامي بإنجازاته و عطائه. و بين هذه النماذج ، نرى بعض الأمثلة التي إرتقت حتى أصبحت مثالاً حياً للشخصية الإسلامية الكاملة بشتى أبعادها . و لكن و للأسف نرى التاريخ يبخل بحقهم و يحشرهم في زوايا ضيّقة . و من هذه القيادات العظيمة التي ظلم حقها التاريخ الإسلامي ، هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) الذي حشره التاريخ في خانة العبادة و صوّره كناسك و راهب إلتزم العبادة في صومعته بعيداً عن الوضع الإسلامي العام. و للأسف ، فأنه يؤلمني أن أرى هذا الإجحاف و الإجحاد يأتي من إعلام الخاصة قبل العامة ، فلا نكاد نسمع في محفل من محافل أهل البيت عن سيرته المباركة إلا و نسمع عن عليل قضى عمره في المرض و كان شغله الشاغل البكاء و العبادة ناسياً مسؤوليته إتجاه المجتمع الإسلامي.

إن الوضع العام للدولة الإسلامية في زمن إمامة الإمام علي بن الحسين كان في أدنى مستويات الإنحطاط من خلال الأزمات السياسية مع جور حكام بني أمية ، بالإضافة إلى الأزمات الأخلاقية و الفكرية و الإجتماعي. يكفينا السنوات الثلاث الأولى من حكم يزيد بن معاوية التي إبتدأها بمقتل سيد الشهداء (ع) و مروراً بإباحة المدينة في واقعة الحَرّة و ختاماً بهدم الكعبة و رميها بالمنجنيق. هذه الأزمات و غيرها تركت أثراً بليغاً على واقع المجتمع الإسلامي ، و حولته إلى مجتمع مليء بالرذائل الأخلاقية و الأزمات الفكرية و الإجتماعية. هنا برز دور الإمام زين العابدين في إنقاذ هذا المجتمع الذي بناه جده المصطفى (ص) و بناء الشخصية الرسالية التي ضاعت هويتها آنذاك، فالإمامة أمان من الفرقة و طاعتهم (ع) نظام للملة كما قالت سيدة نساء العالمين (ع).

من أولى الأزمات التي اجتاحت المجتمع الإسلامي في زمن الإمام زين العابدين كانت الأزمة الدينية و العبادية ، خاصة بعد أن عاصر المسلمون حكاماً يرمون القرآن بالسهام كالوليد و آخر يؤم المسلمين لصلاة الصبح و هو ما يزال في نشوة السكر و العربدة. كانت للإمام السجاد وقفة راسخة في إصلاح هذه الأزمة مع تراثه العظيم الصحيفة السجادية (1) بالإضافة إلى مناجاته الخمسة عشر و بقية الأدعية المروية عنه (ع). هذه الصحيفة التي جعلت المسلم في إتصال تام مع ربه بالمناجاة و التضرع ، بالإضافة إلى أنها كانت مدرسة تحوي المعارف و العقائد الإسلامية و الفضائل الأخلاقية و ما إلى ذلك من المواضيع التي حاول الأمويين بث ما يضادها في المجتمع الإسلامي. و لا يمكن أن ننسى عبادته التي عرف بها حتى لقّب بزين العابدين .و قد روي عن أبي عبدالله الصادق (ع) : ( كان علي بن الحسين (ع) إذا قام في الصلاة تغير لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً) (2) و روي إبنه الباقر (ع) أنه قال : (كان إذا قام في صلاته غشي لونه لوناً آخر ، و كان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل ، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله). (3)

أما في الجانب الثقافي و الرسالي ، فقد كان للإمام زين العابدين دوراً أساسياً في معالجة الوضع الراهن آنذاك. فقد تحرك (ع) من أجل بث روح الشريعة التي تحتوي على رفض الطواغيت و التهيئة من أجل حكم الله و العمل من أجل انقاذ الإنسان من براثن الظلم و العبودية. و من أروع إسهاماته (ع) في هذا الجانب كان في بناءه و تربيته لجيلاً رسالياً متألقاً من العبيد. فقد كان (ع) يشتري ألفاً من العبيد دفعة واحدة و يقوم بتربيتهم لمدة عام كامل، و من ثم يعتقهم و يتركهم ينتشرون بين أرجاء المجتمع الإسلامي و ينشروا قيم العدل و الحرية. أما الشق الثاني من هذا الجانب فكان متمثلاً برسالة الحقوق (4) الذي كتبها الإمام زين العابدين للذين يبحثون عن الدرجات العليا في الإيمان. فهي تشرح واجبات المؤمن و مسؤولياته إتجاه الخالق عزوجل و الناس بالإضافة إلى طبيعة العلاقة القائمة على اسس العدالة المثلى. بالإضافة إلى أن هذه الرسالة و غيرها من رسالات أهل البيت كانت بمثابة دروس مركّزة في التربية الرسالية بهدف بناء القدوات المثلى، و تحافظ على توازن الشخصية الإيمانية و تصونها من التطرف نحو جانب من الشريعة و إهمال سائر الجوانب.

أما الأزمة الإجتماعية ، فقد كانت من أشد الأزمات تأثيراً على المجتمع الإسلامي و بالأخص في المدينة المنورة بعد إن أباحها جيش يزيد بقيادة (مسرف) بن عقبة. هنا كان الدور الإجتماعي لزين العابدين الذي كان يمثل في المجتمع دور رسول الرحمة و المحبة و كان نبراساً يحتذى به في العمل التطوعي الخالص لوجه الله تعالى. فيذكر أنه مر ذات يوم بجماعة من المصابين بمرض الجذام و كان يتحاشاهم الناس خشية العدوى ، فدعاهم إلى بيته ، و أخذ بخدمتهم و تمريضهم و التخفيف من آلامهم. و كان الإمام يترصد قوافل الحج القادمة من شتى البقاع و يلتحق بها و يعمل خادماً للحجاج من غير أن يعرفوه، حتى أنه قال ذات يوم لقافلة من الحجاج أكتشفوا هويته (أنا أرغب دائماً ان أسافر مع قافلة لا يعرفني أحد منهم ، حتى أتمكن أن أحصل على سعادة خدمة المؤمنين و رفقاء الطريق). بالإضافة إلى أنه كان يرعى مئة بيت في المدينة بعد واقعة الحَرّة يحمل إليهم ما يحتاجون إليه. هذا بالإضافة إلى رسالة الحقوق التي قد سبق ذكرها و كيف أنها كانت تحدياً للأزمة الإجتماعية التي كانت تطوّق الأمة الإسلامية فيرجى مراجعتها لما تحتويه من حلول مثمرة للمشاكل الإجتماعية.

يروى في الحديث المأثور أنه "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" ، و هنا كان دور الإمام زين العابدين الرئيسي في التعامل مع الأزمة السياسية بعد مقتل سيد الشهداء (ع). فخطبته في الشام كانت أشبه ما يكون بالإعدام السياسي لحكم يزيد بن معاوية لما إحتوته من إسقاطات مدوية للتيار الأموي. فبدأ (ع) خطبته بذكر الله سبحانه و حذّر الناس من عقابه ، و من ثم بين الإمام خطه السياسي الأبلج الذي ينتهي إلى سيد المرسلين (ص) و بيان صفاتهم التي هي المثل العليا في اليقين و الإستقامة و الجهاد ، ثم أشهر زين العابدين ظلامة سيد الشهداء و بيّن للناس جريمة يزيد في قتل الحسين بعد أن كان تحت تخدير الإعلام الأموي الفاسد، و في نهاية خطابه إستطاع أن يزلزل عرش يزيد عندما إلتفت من فوق المنبر إلى يزيد و قال له بعد سماعه للشهادة الثانية من الأذان (محمد هذا جدّي أم جدك يا يزيد؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت و كفرت ، و إن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته؟). بالإضافة إلى بكاءه المستمرعلى أبيه الحسين طوال 35 عاماً ، و كان من خلال بكائه و نواحه يعمل على إحياء ذكرى ثورة سيد الشهداء و كان دائماً يذكر الناس بأسباب الثورة و قيامه من جهة و من هم الذين حاربوه و قتلوه من جهة أخرى.
و لم يقتصر جهاده السياسي في البكاء و تذكير الناس بالثورة ، بل إمتد إلى تأييد الثورات التي قامت بوجه بني أمية كثورة المختار و ثورة التوابين بقيادة سلمان بن صرد الخزاعي بصورة غير مباشرة. حتى يذكر أنه أرسل عمّه محمد بن الحنفية إلى قيادة ثورة المختار قائلاً له ( يا عم لو ان عبداً زنجياً تعصب لنا أهل البيت ، لوجب على الناس مؤازرته ، و قد ولّيتك هذا الأمر ، فاصنع ما شئت)
(5)

هكذا كانت حياة الإمام علي بن الحسين (ع) حتى أودع الله محبته في قلوب المؤمنين كما يذكر عندما أراد إستلام الحجر الأسود في موسم الحج فتنحى الناس عنه هيبة له. فقد قال (ع) في خطبته في الشام (أعطينا العلم ، و الحلم ، و السماحة ، و الفصاحة ، و الشجاعة ، و المحبة في قلوب المؤمنين).

هذا هو زين العابدين كما وصفّه رب العزة ( أَوَّلُهُمْ عَلِيٌّ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ وَزَيْنُ أَوْلِيَائِيَ الْمَاضِينَ) (6) ، و كما قال رسول الله (ص) : (إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين زين العابدين؟ فكأني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) يخطر بين الصفوف) (7) .. و مثل هذا الإمام العظيم يقاد أسيراً من بلد إلى بلد في مثل هذه الأيام !!

عظم الله أجورنا و أجوركم بذكرى إستشهاده (ع)
و إنا لله و إنا إليه راجعون ..
و الله الموفق ،

(1) الصحيفة السجادية pdf
http://www.4shared.com/document/yxZHKQHN/-_online.html
(2) الكافي ج 3 ص 300
(3) الخصال ج2 ص 517
)4) رسالة الحقوق pdf
http://www.4shared.com/document/9seQcCm9/_____.html
(5) البحار ج 45 ص 363
(6) الكافي ج 1 ص 527
(7) أمالي الشيخ الصدوق ص 331

المصادر
- نبذة عن حياة المعصومين لوالدة السيد محمد حسين الشيرازي
- الإمام السجاد قدوة و أسوة لسماحة السيد محمد تقي المدرسي
- حياة الأئمة الأطهار للشهيد مرتضى مطهري
- مقدمة في أصول الدين لسماحة الشيخ حسين الوحيد الخراساني
- التاريخ الإسلامي دروس و عبر لسماحة السيد محمد تقي المدرسي
- أوليات الإسلام لسماحة السيد هادي المدرسي
- سلسلة محاظرات حول سيرة الإمام زين العابدين لسماحة السيد نوري الكربلائي - حسينية الإمام الحسن العسكري الكويت 1432