الأحد، 17 نوفمبر 2013

رضيع الحسين (ع)

رضيع الحسين (ع)

شهدت الكويت في الآونة الأخيرة أحداث مؤسفة جرّاء التعسف التي قامت به البلدية من ازالة موكب خيمة عبدالله الرضيع الذي نصب في منطقة الرميثية لخدمة مُعزين الإمام الحسين (ع). و لوحظ بين الكثير جهل شخصية عبدالله الرضيع ، لا تقصيراً منهم. من هو المقصّر إذن ؟

إذا نظرنا نظرة سريعة إلى مناهج التاريخ الإسلامي في وزارة التربية ، سنجد ندرة في القصص و الروايات التي تذكر تاريخ أهل بيت رسول الله (ص) . بإستثناء قصة الحسن و الحسين و تعليم الوضوء التي لا أعتبرها أكثر من "ذر الرماد في العيون" .

التقصير الأول هو منا نحن أتباع أهل البيت الذين لم نبذل جهداً يذكر في تعريف الناس بسيرة الإمام الحسين و انشغلنا بذكر خلافاتنا و تسعير نار الفرقة و الطائفية و العصبية.

اما التقصير الثاني فهو من القائمين على مناهج وزارة التربية التي كان حرياّ بها أن تٌدرس قضية كربلاء و فاجعة الحسين لما لها من أهمية قصوى في تاريخ المسلمين أجمع ، شيعة و سنة .

إن حادثة مقتل عبدالله بن الحسين (الرضيع) ترسم لنا منهجين لا ثالث لهما . الأول هو منهج التفاني الخالص في سبيل الله عند الإمام الحسين ، فهو قدم كل ما يملك في سبيل الإصلاح ، حتى رضيعه.

اما المنهج الثاني هو منهج الوحشية الذي كان يمتلكها جيش الكوفة بقيادة عمر بن سعد في السعي إلى إبادة شاملة لآل بيت رسول الله و محو ذكرهم .

عندما أخذ الحسين دم رضيعه المذبوح و رمى به نحو السماء قام بمناجاة ربه بكلمات تنم عن اخلاص و تسليم تام لقضاء الله و الاستغاثة و اللجوء الكامل به عز وجل : "هوّن ما نزل بي أنه بعين الله ، اللهم إن كنت حبست عنا النصر فإجعل ذلك لما هو خير لنا".

في ظهر عاشوراء لعام 61 هـ ، كان عبدالله الرضيع أصغر القتلى بين صفوف معسكر الحسين و لكنه أصبح باباً لمعرفة عظمة تضحيات الحسين بن علي (ع) .  


الأربعاء، 13 نوفمبر 2013

علّمتنا كيف نحيا

(علَّمتنا كيف نحيا)


مال عن ظهر جواده إلى الأرض ، لم ينحني لأحد و لم يُسقطه أحد ، لكن أعياه نزف الدماء بعد أن وقف كالطود الشامخ يُجبّن الشجعان و جسده مُلطخ بدمه الطاهر ، يبث الرعب في قلوب أعداء الدين و هو وِترٌ غريب أمام عشرات الآلاف من عبد الطاغوت . وقف ذلك الموقف في صحراء كربلاء ، ليُجسد للإنسانية ما معنى الحياة .

هو الحُسين (ع) ، الذي علّم الإنسان كيف يحيا و جسده بين حوافر الخيل ، الذي وهب الحياة لمُحبيه و أتباعه و رأسه على رؤوس الرماح ، هو ذلك الشهيد الذي وقف و رسم للشهادة معنىً آخر . ذلك الشهيد الذي برهن أنه بالشهادة يبقى الإنسان.

ما هي الحياة ؟ و كيف نستطيع أن نضع معياراً لقياس الحياة عند أي فرد كان ؟  قد يعيش الإنسان مئة سنة يقوم بأعمالهم من أكل و شرب و لكن بلا حياة تُذكر ، و قد تكون بضع لحظات يعيشها الحر الرياحي ، بينه و بين نفسه ، يُخيّر نفسه بين الجنة و النار و من ثًم يُقدم نفسه قرباناً لله تعالى بين يدي الحسين ، تلك اللحظات كفيلة لكي يحيا ذكره إلى يوم القيامة تتناقل بطولته الأجيال جيلاً بعد جيل .

"أَشْهَدُ اَنَّكَ قُتِلْتَ وَلَمْ تَمُتْ بَلْ بِرَجاءِ حَياتِكَ حَيِيَتْ قُلُوبُ شيعَتِكَ، وَبِضِياءِ نُورِكَ اهْتَدَى الطّالِبُونَ اِلَيْكَ" [1]

كيف كانت بضع ساعات في نهار عاشوراء كفيلة لوضع درساً شاملاً لقيمة الحياة عند بني الإنسان ؟

وقف الحسين بكل عزة و كبرياء قائلاً "و الله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل و لا أفرّ فرار العبيد"[2] ، هنا وضع سيد الشهداء المعادلة التامة للحياة الكريمة و التي تتكون من مبداً العزة و الكرامة و الإباء بالإضافة إلى الثبات و السعي الدائم و عدم اليأس .

ينقل عن الإمام علي بن الحسين أنه قال "كنت أنظر في وجه أبي الحسين ، كلما إشتد عليه الأمر تهلل وجهه فرحاً و سرورا" ، لم تثنيه المصاعب و المآسي عن المضي قدماً في سبيل نهضته المقدسة و كان يجاهد إلى آخر ما يملك في سبيل الله عزوجل ، و كما ينقل عنه بعض الرواة "و الله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جأشاً و لا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه"[3] .

في لحظاته الأخيرة و هو متوسد التراب ، بقي الحسين على ثباته و لم تُثنيه الجراحات و أهوال الموت من هدفه الأعلى . فكان يناجي ربه ولا يستثغيث بغيره عزوجل . لم يطلب الأمان من أحد و لم يستجدي رحمة غيره عزوجل . فكان خطابه الأخير مناجاةً لربه ..

"اللهم أنت متعالى المكان ، عظيم الجبروت ، شديد المحال ، غني عن الخلائق ، عريض الكبرياء .. "[4]

هذا التسليم المطلق لله عزوجل مع الثبات و الإباء هو الذي خلّد الحسين (ع) في صفحات التاريخ و به وضع معادلة للحياة .

"فالموت في حياتكم مقهورين ، و الحياة في موتكم قاهرين"[5] ، قالها علي (ع) في صفّين عندما إستولى جيش معاوية على الماء ، سمعها الحسين و بها قهر الظالمين جيلاً بعد جيل و بقي حيّاً يُنير نفق الظلام للباحثين عن العز و المجد و الكبرياء ، و مناراً يهتدي به الطالبون إلى نهج الإباء و الكرامة و طريقاً يسلكه عُشاق الشهادة في سبيل الحق و الحقيقة .

قام الحسين  في عاشوراء  "ليُعلم النوع الإنساني أن الشهادة ليست (خسارة) بل (إختيار) "[6] ، ليعلمنا أن لا قيمة لحياة الإنسان من دون الإرادة و الإختيار ، من دون رفض الذل و العبودية ، من دون السعي إلى حرية الإنسان و تحرره من طاعة الطاغوت الى الذوبان في ذات الله .

إختار الحسين الشهادة و أقبل عليها بكل ما يملك [7] ، فكان حيّاً عند ربه [8] حتى أمسى في يوم عاشوراء و رأسه على الرمح مُعلّم الحياة الأول و علّم بني آدم بأن بالموت تكون الحياة ، و بالشهادة يكون البقاء .

                                                                                                                                                                                   
أحمد خليل لاري
ليلة عاشوراء 1435




[1]  المجلسي ، محمد باقر - بحار الأنوار 98 : 337
[2] المقرم ، عبدالرزاق – مقتل الحسين  256
[3]  تاريخ الطبري 6 : 259
[4] المقرم ، عبدالرزاق – مقتل الحسين 282
[5]  الشريف الرضي – نهج البلاغة 159
[6]  شريعتي ، علي – الشهادة 111
[7]  (أعطى  الذي ملكت يداه إلهه ، حتى الجنين فداه كل جنين)
[8]  ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) آل عمران 169

الاثنين، 11 نوفمبر 2013

العباس .. أمة في كربلاء

العباس .. أُمة في كربلاء

لم يكن إعطاء الرخصة للقتال سهلاً هذه المرة ، فلم يبقَ في معسكر آل علي إلا هو و أخوه القمر . أما بقية رجال هذه الملحمة الخالدة فكانوا صرعى على الأرض بين قتيل و صريع .

الزمان كان 61 للهجرة النبوية و المكان بين خيام بني هاشم في أرض يُقال لها كربلاء ، كان هذا الحوار :
"أخي أنت العلامة من عسكري فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات" [1] ، قالها الحسين (ع) و هو ينظر إلى أخيه العباس ، ربيب علي بن أبي طالب و فارس بني هاشم.

المعصوم لا يتكلم مجازاً ولا ينطق بفضول الكلام ،  ، أي عسكر كان يقصد الحسين ؟ لم يكن في الخيام غيره هو و العباس من المقاتلين ؟

لقد رأي الحسين في أخيه العباس جيشاً بمفرده ، قد كان جيش التوحيد في مقابل جيوش الكفر و الطغيان تحت لواء عمر بن سعد.

العباس هو تلميذ علي (ع) الذي كان يرتجز و يقول بكل كبرياء و عزة "لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ، و لا تفرقهم عني وحشة" [3] ، و هو القائل "لا تستوحشوا طريق الحق لقلّة سالكيه" [4] فكان مصداق لعزة المؤمنين المستمدة من ارتباطهم بالله تعالى . لذلك كان العباس كما وصفه الإمام جعفر الصادق "نافذ البصيرة ، صلب الإيمان"[5] .

يصف العلامة البوصيري رسول الله (ص) في قصيدته الخالدة ، "كأنه و هو فرد من جلالته ، في عسكر حين تلقاه و في حشم" .. فلا ضير أن يكون العباس تلميذاً لامعاً في مدرسة محمد بن عبدالله (ص) حتى اكتسب تلك الصفات الجليلة ، فهو الذي تربى بين يدي أبيه علي و أخويه الحسن و الحسين .

هذا هو العباس بن علي ، فارس بني هاشم ، حتى أضحى يوم العاشر من المحرم كجده الأكبر ، فارس التوحيد الأول و محطم أصنام الجهل ، إبراهيم الخليل (ع) الذي وصفه الله تعالى في كتابه "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفا"[6] . العباس كان أمةً لوحده في صحراء كربلاء ، مُحطماً لأصنام الطاغوت مجاهداً نفسه في سبيل رضا الله عزوجل [7].

السلام عليك يوم ولدت ..
و يوم استشهدت ..
و يوم تُبعث حياً فيغبطك جميع الشهداء يوم القيامة [8] ..

أحمد خليل لاري
7 محرم 1435



[1] القزويني ، محمد كاظم  (فاجعة الطف)
[2] سورة النجم 3
[3] الشريف الرضي (نهج البلاغة)
[4] المصدر السابق : الخطبة 21
[5] الشاكري ، حسين (شهداء أهل البيت ص 31)
[6] سورة النحل 120
[7] "يا نفس من بعد الحسين هوني ، و بعده لا كنت أو تكوني" (بطل العلقمي 1:11 – عبدالواحد المظفر)
[8] الصدوق ، محمد بن علي (الخصال ج1 ص 68)

الخميس، 7 نوفمبر 2013

ما رأيت إلّا جميلا

(ما رأيت إلا جميلا)

في العام الخامس من الهجرة ، أخذ الراية و ذهب مسرعاً إلى نِزال عمرو بن عبد ود . ينقل التاريخ عنه أنه كان مستبشراً و وجهه يتلألأ و هو يًسرع إلى الجهاد في سبيل الله باحثاً عن الشهادة . 
و في كل مرة يعود إلى رسول الله ، بعد ان يفتح الله على يديه الحصون و القلاع ، يعود و يقف بين يديه حزيناً و يقول "أرأيت كيف فاتتني الشهادة يا رسول الله ؟" .

ذاك هو بطل الإسلام وفتاه الأول علي بن ابي طالب (ع) الذي كان لا يرى غير جمال الله عزوجل في كل أعماله [1]. و يستأنس بالموت كإستئناس الطفل بمحالب أمه[2] ، و يرى شهادته في محراب الكوفة و خضاب لحيته من دم رأسه موطنأً من مواطن البُشرى و الشكر[3] . حتى هتف بعالي صوته (فُزت و رب الكعبة).

هذه الروح الكبيرة .. كانت في كربلاء

يقول عباس نور الدين في مقدمة كتاب "لطائف عرفانية" للسيد روح الله الخميني : "أولئك الذين اطلعوا على الكمالات من زاوية أضدادها احتاجوا إلى البحث عن أصولها و الذي أضاء الله قلبه بمعرفة الجمال قبل معرفة القبح و الكمال قبل النقص وجد الكمالات كلها نابعة من أصل واحد" [4].

هكذا كان آل محمد (ص) الذين يلغوا أعلى الكمالات في سيرهم إلى الله عزوجل و كانوا دائماً يرون الله حاضراً أمامهم في كل أعمالهم. فها هو سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (ع) يُناجي ربه في عرفة قائلاً :

"و أنت الذي تعرفت إليّ في كل شي فرأيتك ظاهراً في كل شيء" [5].

من تكن لديه هذه المعرفة التامة بالله عزوجل لا يرى في الوجود غير مظاهر جماله و جلاله . فنراه عندما أراد الإعلان عن نهضته المباركة في مكة المكرمة يقف أمام الناس و يلقي بخطبته التي تحدث فيها عن مصرعه و مقتله ، و يصف الموت كقلادة تزيّن جيد الفتاة .. "خُط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة" [6].

و بقيت تلك الروح الكبيرة تسري بجسده المبارك ، فكان يقف و يخطب في عسكر بن سعد قائلاً ، "إني لا أرى الموت إلى سعادة و الحياة مع الظالمين إلى برما" [7] . فهو (ع) سليل علي و فاطمة و ربيب محمد (ص) ، هذه الأسرة التي كانت أعظم تجليٍ لجمال الله عزوجل.

و قد ألهمت تلك الروحية عند سيد الشهداء بقية أهل بيته و أصحابه في كربلاء ، فكانوا يستأنسون بالموت كجدهم و إمامهم أمير المؤمنين. فذاك القاسم بن الحسن يقف كالجبل الشامخ و يجيب عمه الحسين بعدما سأله عن رأيه في القتل و الشهادة قائلاً : "يا عماه في نصرتك أحلى من العسل"[8]
أما أصحابه فيصفهم الحسين قائلاً : "و الله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلى الأشوس الأقعس ، يستأنسون بالمنية دوني إستيناس الطفل إلى محالب أمه"[9].

يرى بعض علماء الأخلاق أن فضيلة الصبر تأتي على مراحل و غاية الصبر و أعلى مراحله هي مرحلة الرضا التام بقضاء الله. تلك الفضيلة التي تكون نابعة من عظيم مثل الإمام الحسين بن علي و هو على رمضاء كربلاء مناجياً ربه ، "إلهي رضاً برضاك لا معبود سواك" [10] و قد أبدع السيد حيدر الحلي في رسم هذه الملحمة الإنسانية و هو يصف الحسين ساعة إستشهاده :
"ثوى زائد البِشر في صرعة ، له حبّب العزّ لقيانها" .

أما بعد إستشهاده ، فقد بقيت تلك الروحية تسري في دماء أهل بيته ، يستعينون بها زاداّ في رحلة السبي من بلد إلى بلد. في مسجد الكوفة ، تجلّت تلك المعرفة و ذلك الرضا في قلب زينب بنت علي ، فقد سجّل التاريخ بأحرف من ذهب ذلك الحوار الذي جرى بين الطاغية عبيدالله بن زياد و سليلة بيت النبوة :
"كيف رأيت صنع الله بأخيك و أهل بيتك؟" 
فأجابت ، "و الله ما رأيت إلى جميلا ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم" [11].

هؤلاء هم أولياء الله ، لا يروّن في قضاء الله إلا جميلا ، أرواحهم مُعلقة بالملأ الأعلى شوقاً إلى بارئهم . و ليست الشهادة و القتل في سبيل الله إلّا بُراقاً يعرجون به نحو مقعد صدق عند مليك مقتدر[12]، وافدين إلى حضرة جمال الله عزوجل [13].

أحمد خليل لاري
3 محرم 1435



[1] (ما رأيت شيئاً إلا و رأيت الله قبله و بعده و معه و فيه) – مسند الإمام علي (ع) ص150
[2] (و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدى امّه( - نهج البلاغة ص 100
[3] ( يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر و لكن من مواطن البشرى و الشكر) – بحار النوار 69 : 138
[4] لطائف عرفانية ص 9
[5] دعاء الحسين في عرفة – مفاتيح الجنان
[6] بحار الأنوار 44 : 366
[7] ترجمة حياة الإمام الحسين ص 315 – إبن عساكر
[8] أنجال الإمام الحسن (ع) في كربلاء – المرجع المدرسي
[9] ليلة عاشوراء في الحديث و الأدب ص 178 –عبدالله الحسن
[10] تفسير من هدي القرآن ج 12 – المرجع المدرسي
[11] بحار الأنوار 45 : 115
[12] (إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) سورة القمر 54-55
[13] (وافداً إلى حضرة جمالك ، مُريداً وجهك ، طارقاً بابك) مناجاة الراغبين | الإمام زين العابدين (ع)