السبت، 13 يوليو 2019

البدون و نحن



 25 كيلومترا هي المسافة بين منطقة الشويخ السكنية و"عشيشالصليبية. في الوهلة الأولى تخالها مسافة قصيرة، لكنها في الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. فالمسافة التي تقطعها بسيارتك بأقل من نصف ساعة هي في الواقع الفارق بين طفل تتحقق أحلامه في كل لحظة بين رفاهية عيش وطمأنينة ومستقبل مزهر، وبين طفل يرى البؤس في كل لحظة، يرى تطلعات وأمانيَ تتحول إلى كوابيس في كل يوم، ومستقبلا عبارة عن نفق مظلم، لا يجد في طرفيه النور.

هذا التفاوت الاجتماعي والاقتصادي الهائل الذي نعيشه في هذا الوطن المعطاء، بشعبه الكريم الذي لا يكاد يبلغ المليون نسمة ومساحة لا تتعدى العشرين ألف كيلومتر مربع! إن من المحزن والمثير للأسى أن يعيش بين ظهرانينا أناس أغلقت في وجوههم كل تطلعات الحياة الكريمة ولا يزالون يتجرعون المآسي في كل لحظة منذ يوم ميلادهم الأول، فلا شهادة ميلاد ولا سهولة تعليم أو توظيف بالإضافة إلى التعسف المتكرر في كل المعاملات المدنية في الدوائر الحكومية. كل هذا في أرض حباها الله بأكثر من 3 مليون برميل من النفط ينتج يومياً.

المأساة التي نتحدث عنها هي مأساة شريحة البدون أو عديمي الجنسية بمسماهم القديم. في الواقع، فإن مأساة البدون لا تقتصر على دولة الكويت، فتقارير الأمم المتحدة تشير إلى قرابة ال10 ملايين شخص من عديمي الجنسية في العالم، 93 ألفا منهم يعيشون في الكويت حسب أحد تقارير الأمم المتحدة للعام 2018. يعرف عديم الجنسية بأنه الشخص الذي لا يملك جنسية أي دولة تحت سلطة القانون، وهو ما يعانيه الكثير من إخواننا البدون في هذا الوطن الكريم. 

إن انعدام الجنسية هو مفتاح للكثير من المآسي والصعوبات التي تواجه الشخص في عالمنا المدني المعاصر، فهي بالبداية قد تعني انعدام الهوية بما يترتب عليه من مشاعر الضياع وعدم الانتماء التي قد تتولد عند الشعور بالغبن والظلم خاصة عندما تكون هذه الوثيقة هي بوابة للكثير من الفرص التي يستطيع من خلالها الشخص أن يكون فرداً معطاءً في المجتمع. إن انعدام الجنسية يعني الصعوبة في التحرك خارج وداخل البلد المعني، وصعوبة الحصول على الأوراق الرسمية من جواز سفر وهويات مدنية رسمية وشهادات ميلاد وزواج وحتى وفاة، هذا بالإضافة إلى الصعوبة في التوظيف والتعسف في الرواتب والمخصصات المالية والمادية التي تجعل من الإنسان عضواً فاعلاً المجتمع، فالهوية قد تكون في الكثير من الأحيان باباً للعطاء. 

لقد أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن "لكل فرد حق التمتع بجنسية ماوهذا التأكيد هو بالأصل إقرار بالأهمية القانونية والعملية للجنسية، ونجد من أكبر المخاطر التي قد تقع من جراء انعدام الجنسية هو ما ورد في اتفاقية عام 1954 للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والتي جاء فيها "إن انعدام الجنسية يحول بين الأشخاص وتحقيق ذاتهم وإطلاق قدراتهم مما قد يكون له آثار جد سلبية على الترابط والاستقرار الاجتماعي واندلاع توترات فئوية". 

إن قيمة الإنسان تكون بمقدار ما يقدمه لقضايا مجتمعه ومبادئه، لا فيما يحتويه من جينات وأنساب وأعراق. قيمة كل فرد تكون بمقدار عطائه وإخلاصه في الدفاع عن مكتسبات إخوانه من رفاهية عيش وحرية ومساواة وحياة طيبة، وبهذه القيمة ينبغي أن يكون مقياس انتماء الإنسان من عدمه، لا ما تحتويه الصدفة البيولوجية أو الجغرافية

في الوقت الذي يكون كل طفل في هذا العالم منجماً للخبرات والتطلعات المستقبلية إذا ما تم التنقيب عنها باستخدام التعليم الصحيح الواعي وتم استخراج ما في داخلهم من إبداع، فإن أطفال البدون للأسف عبارة عن قنابل موقوتة بما تختزنه من مشاعر الغبن والقهر في كل يوم، وفرائس سهلة لمخاطر المخدرات والأفكار المتطرفة، فما نشاهده من حالات انتحار متكررة وجرائم ما هي إلا نتاج هذا المخزون الهائل من القهر والمظالم

قبل 1400 عام ، قام أبوذر الغفاري الصحابي المعروف ببيان مخاطر الفقر . إن دعوى حقوق البدون و عديمي الجنسية هي دعوى لانتشال هذه الفئة المسحوقة من مستنقع الضياع والقهر وإدراجهم في المجتمع المدني وإشراكهم في بناء الحضارة الإنسانية. 

رسالتي الأولى إلى إخواني في الكويت من الأفراد الراغبين في نشر العدل ورفع المظالم عن إخواننا البدون. تستطيعون أن تساهموا ولو بالقليل في المساعدة، قومواً بالبحث عن مآسي إخوانكم، اطرقوا بيوتهم وابحثوا عن المتعثرين منهم، فالكثير منهم متعففون لا يسألون إلحافاً. تعرفوا على العالم المظلم الذي يعيشون فيه وساهموا ولو بالقليل في إشعال شمعة. هناك الكثير من طلبة المدارس المحتاجين لمبالغ بسيطة (لا تتعدى ال100 دينار) لأخذ شهاداتهم، وهناك الكثير من العوائل المتعطلة إيجاراتهم، ابحثوا عن المحتاج وستجدونه

أما الرسالة الثانية فهي لمؤسسات المجتمع المدني. قوموا بنشر الوعي بقضية البدون بين أطياف المجتمع، فالكثير لا يزال يجهل ظروف معيشتهم. قوموا بإقامة الفعاليات الجماهيرية من كفالة طلبة المدارس وتزويج العزاب والرعاية بالمسنين منهم، فالأقربون أولى بالمعروف

 رسالتي الثالثة إلى نواب مجلس الأمة. نعلم أن شريحة البدون ليس من ورائها أصوات ولا ناخبون، لكنهم لا يزالون أفرادا في هذا الوطن، وعليكم مسؤولية الدفاع عنهم والمساهمة في وضع تشريعات تضمن لهم حياة كريمة طيبة بعيداً عن التكسبات السياسية، وأحد أهم هذه القرارات بنظري هو العودة إلى مسمى (عديمي الجنسية) بدلا من (المقيمين بصورة غير قانونية) مع الدفع بحكومة الكويت للتوقيع على اتفاقية 1956 و 1961 من الأمم المتحدة و التي تحتوي على التوصيات المعنية بقضيتهم

أما رسالتي الأخيرة، فهي لإخوتي من عديمي الجنسية. لا يؤلم الجرح إلا من به ألم .. أنتم المعنيون بقضيتكم قبل أي فئة أخرى. عليكم مسؤولية كبيرة بنشرها في كل وسائل الإعلام المتوفرة، فمن رحم المعاناة يتولد الإبداع. عليكم بكتابة الروايات الأدبية، وإنتاج الأفلام الوثائقية وإقامة المعارض الفنية وغيرها. 

لم أتطرق في الكلمات الماضية لمختلف الجوانب القانونية من شروط الجنسية والتجنيس لما تحتويه من جدل لا طائل منه، ابتداء بدعاوى إحصاء 1965 مرورا بما يعرف بالتجنيس السياسي وانتهاء بتجنيس ما بعد الغزو. لا أحب التطرق لمثل هذه الدعاوى بسبب استخدامها من قبل الكثير في خصوماتهم السياسية، هذا بالإضافة إلى إيماني التام أن الشاب من فئة البدون الذي ولد وعاش في الكويت ولم يعرف وطناً غيره منذ يوم ولادته لا يجب أن يحمل على عاتقه ترسبات الصراعات السياسية السابقة في القرن الماضي، فبالنهاية من يملك القانون في أوطاننا يملك حق عزفه

***
بعض الهوامش : 
1- إتفاقية 1961 بشأن خفض حالات إنعدام الجنسية 
2- إتفاقية 1956 بشأن حماية حقوق الأشخاص عديمي الجنسية 
3- قصيدة ملامح بعد البين - بدر الدريع 
4- معرض فني للرسام عبدالرحمن بولند 
5-TedX Talk : Nowhere People : Exposing Portraits of the world Stateless people 
6- صفحة الروائي الكويتي -البدون- الراحل ناصر الظفيري 

بو حواء
13\7\2019





الاثنين، 10 يونيو 2019

في ذكرى العم بو حسن




الإنسان في هذه الدنيا في مسيرة كدح و تعب، يسعى ليل نهار بحثاً عن الأمجاد، يبحث عن السعادة و الطمأنينة، عن الجاه و العز و الذكر الصالح بين الناس ..
هناك من ينجح و الكثير من تراه يتخبط في هذه السير فلا يعلم من أين تكون هذه السعادة وكيف السبيل الى قياسها و رؤية آثارها ..
بين الحينة و الاخرى .. تجد بعضاً من الأشخاص الذين يخيل عليهم أنهم عرفوا المعادلة حق معرفة  .. فعلموا أن هذه الدار الفانية لا تكون السعادة فيها إلا بترك ما فيها .. و ان يكون :
"بُشره في وجهه ، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدرا و أذلّ شيء نفساً"
فلا يذكره الناس إلا ضحوكاً مستبشراً .. ولا تكتمل هذه السعادة إلا بالعمل بين الناس .. و أن تكون :
"نفسه منه في تعب والناس منه في راحة" ..
هذه السعادة التي تبقى ولا تفنى ..

أما ثمرة هذه السعادة، تجدها في خدمة الحسين (ع) ، و بها تنال سعادة الدارين ، هذه الخدمة التي بها تنال عزاً بلا تكلف و محبة في قلوب المؤمنين بلا تزلف ..

رحمك الله يا عمي الغالي با أبا حسن ..
كنت مصداقاً لكل ما قيل، ضحوكاً مستبشراً ، متواضعاً محباً للغير، تنشر الفرح بين الناس بلا تكلف..
لطالما كنا نسمعك تردد "اليكي يا دنيا عني" .. بإسلوب مرح و لكنك في نفس الوقت تطبقها عملياً من غير سعي خلف رفعة أو سمعة ..

كنت نعم الخادم لسيد الشهداء (ع) .. فلا أكاد أعرف مجلساً حسينياً إلا ولك فيه بصمة واضحة، و أي فخر أن يقرن اسمك بمجلس يذكر فيه اسم الحسين (ع) ..
و كنت مثالا لكلمة رسول الله (ص) :
"خادم القوم سيدهم" .. محبا لعمل الخير وخدمة الإخوان بكل اخلاص و جد ..

شاء الله أن يخطفك الأجل منا سريعاً و من دون سابق إنذار .. وشاء عزوجل أن تختم حياتك و انت في عمل الخير متفقداً للأيتام .. ليستقبلك أبو الأرامل و الأيتام أمير المؤمنين (ع) ..

أحببت زيارة الحسين و خدمته فكان الجزاء مجاورة الحسين في مثواك الأخير ..

ربح البيع عميَ الغالي .. متأكدا انك شاهدت ثمن هذه الدنيا في يومك في دار البقاء .. و ستبقى ذكراك تتجدد في كل ليلة جمعة و نحن نستذكر رسائلك الأسبوعية التي كنت تذكرنا فيها بزيارة الحسين (ع) ..

أسأل الله أن يلهم اهلك الصبر على المصاب و أن يتغمدك بواسع رحمته مع النبي و آله و اللقاء ان شاءالله عند سيد الشهداء (ع) ..

..

بو حواء
٣/٥/٢٠١٩

الثلاثاء، 4 يونيو 2019

السير إلى علي

السير إلى علي (ع)


وجدت نفسي واقفاً ذات يوم في ساحة حرم الإمام علي (ع) في النجف مذهولاً بما أرى من جمال و جلال، أسبح بفكري في مقام هذا الإمام العظيم متسائلاً كيف السبيل إلى مخاطبته و رؤيته رأي العيان.
أذكر سابقاً أني سمعت في بعض الآثار انه اذا ارد العبد مخاطبة ربه فليقم للصلاة و ان اراد سماع كلام ربه فعليه بقراءة القرآن . و هنا و أنا واقف أما ضريح علي (ع) تذكر مقالته "تكلموا تعرفو فإن المرء مخبوء تحت لسانه".
 و بهذا قد هداني علي إلى الجواب ؛ فلا سبيل إلى رؤيته إلا بقراءة آثاره و كلماته. و رحم الله الشريف الرضي الذي اختصر علينا المشوار بإعداده للسفر العظيم -نهج البلاغة- بما يحويه من نفائس الآثار من ذلك الإمام الذي لم يجد غيره "يطأ بنا الطريق و يرشدنا السبيل عندما يدبر من الدنيا ما كان مقبل"
فكان القرار بالبدء برحلة بقراءة النهج، ذهبت إلى مكتبتي و قمت بإزاحة الغبار عنه و عن ضجيعيه القرآن الكريم و الصحيفة السجادية، اللذين أمسوا و للأسف شعار إفتخار لا إعتبار و حري بهذه الأسفار الثلاثة أن      "يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً وَ لَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ" ، و بهذه العبارة نفتتح المسير .
و إن كانت فاتحة القرآن بالحمد لله رب العالمين ، فلا يمكن أن يحيد عنها نهج البلاغة الذي افتتحه الشريف الرضي بخطبةٍ لأمير المؤمنين يقول في بدايتها "الحمدلله الذي لا يبلغ مدحته القائلون" و بُها يعرف رأس الدين و سنام المعرفة بمعالم التوحيد الخالص لله عزوجل :
" أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ ، وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ ، وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ ، وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ ، وَ كَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ"
فحري أن تكون معرفة الله كما يريد الله عزوجل لا كما تريد الأهواء البشرية و أن لا نصفه إلا بما وصف به نفسه، و على هذا المنوال تجد بقية المعارف التوحيدية في نهج البلاغة حتى يختمها علي (ع) بمقولة واضحة وردت في أواخر النهج : "التوحيد أن لا تتوهمه".
أما في غير التوحيد، فنهج البلاغة عبارة عن ملحمة إنسانية شاملة تعني بالكثير من الجوانب المعرفية و الأخلاقية و السياسية.
فتجد فيه الأحاديث عن التقوى و الصراع مع الدنيا، فتراه يدعو الناس إلى أن " يقَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ وَ طَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازِلِ" ، مع الأخذ بالتقوى حتى "تعزب عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا وَ تحلو لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا وَ تنفرج عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا" .
و مع هذا، لا تجده يدعو إلى رهبانية أو تصوف في نبذ الدنيا و زينتها فيقول لأحد أصحابه عند حديثه عن وسع داره " إنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا"
و كذلك تجد بين طيات النهج جميل الوصايا الأخلاقية و التربوية في تزكية النفس و بناء الإنسان الرباني الذي "يحاسب نفسه لنفسه" و "يعقل الدين عقل وعاية و رعاية لا عقل سماع و رواية". و بمثل هذه الوصايا عرفنا أن "قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ وَ صِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ وَ شَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَ عِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ" ، و بمثل هذه الوصايا يرتقي الإنسان في مسالك الفتوة و الإيمان.
ولا يسعنا أن نتحدث عن نهج البلاغة من دون أن نعرج نحو وصايا العدل و الإنصاف التي رسمها علي بقوله و فعله حتى أصبح ترنيمة العدل الأسمى التي ينشدها كل طالب للحق و الحقيقة. فنجد تلك الوصايا بين طيات كتبه إلى ولاته على الأمصار و خطبه التي كان يعظ بها الناس.
و بأحد وصاياه إلى ولاته نجده يقول "و ليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق و أعمها في العدل" و حتى يضع العدل في مصافه يُحذر من الهوى قائلاً " فَإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ"
و لمعرفة علي (ع) بدقائق النفس البشرية و كيف بإستطاعتها أن تخادع نفسها و تزين بعض الأعمال إذا تملكها الهوى، يضع ميزاناً صارماً في التفريق بين العدل و الجود قائلاً :
"الْعَدْلُ يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا وَ الْجُودُ يُخْرِجُهَا عَنْ جِهَتِهَا وَ الْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ وَ الْجُودُ عَارِضٌ خَاصٌّ فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُمَا وَ أَفْضَلُهُمَا"
عندما تكون الموعظة من شخص مثل إبن أبي طالب، تجدها واضحة من دون تكلف أو فضول الكلام، تخترق الأنفس من دون تزلف أو إستحياء، كيف لا و قائلها كان أعرف الناس بنفسه و على بصيرة من أمره، " لَا تزِيدُه كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِه عِزَّةً وَ لَا تَفَرُّقُهُمْ عَنِّه وَحْشَةً" ، لا يصطنع التواضع و الدعة فتجده واثقاً بنفسه من دون تكبرٍ أو إستعلاء على الغير و هو يقول في كتاب إلى أحد خصومه "فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَ خَالِكَ وَ أَخِيكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وَ ذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي وَ بِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً وَ لَا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً وَ إِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ وَ دَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ"
عندما تكون النفس الأبية عارفة بمقامها، لا تجدها تبحث عن رفعة عند الناس، حتى انها ترفضها كارهةً للإطراء و استماع الثناء، تلك النفس كانت بين جنبي أبا الحسن و هو يخاطب الناس " فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ"
عدت بخاطري إلى أرض الغري و انا اقرأ الصفحات الأخيرة من نهج البلاغة، بعد أن طويت خلالها رحلة من عظيم المعاني الإنسانية.
و أنا أشاهد مرقده المبارك خُيل إلىّ بين أحد زوايا الحرم؛ فتى الإسلام الخالد جالساً على الأرض يخصف نعله و يرقّع مدرعته، و قد طويت بين راحتيه الدنيا و ما فيها و هو يهتف قائلاً "
عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى"
.........
*  ما بين الأقواس إقتباسات من نهج البلاغة
بو حواء
29 رمضان 1440