(علَّمتنا كيف نحيا)
مال عن ظهر جواده إلى الأرض ، لم ينحني لأحد و لم يُسقطه أحد ، لكن أعياه نزف الدماء بعد أن وقف كالطود الشامخ يُجبّن
الشجعان و جسده مُلطخ بدمه الطاهر ، يبث الرعب في قلوب أعداء الدين و هو وِترٌ
غريب أمام عشرات الآلاف من عبد الطاغوت . وقف ذلك الموقف في صحراء كربلاء ، ليُجسد
للإنسانية ما معنى الحياة .
هو الحُسين (ع) ، الذي علّم الإنسان
كيف يحيا و جسده بين حوافر الخيل ، الذي وهب الحياة لمُحبيه و أتباعه و رأسه على
رؤوس الرماح ، هو ذلك الشهيد الذي وقف و رسم للشهادة معنىً آخر . ذلك الشهيد الذي
برهن أنه بالشهادة يبقى الإنسان.
ما هي الحياة ؟ و كيف نستطيع أن نضع
معياراً لقياس الحياة عند أي فرد كان ؟ قد
يعيش الإنسان مئة سنة يقوم بأعمالهم من أكل و شرب و لكن بلا حياة تُذكر ، و قد
تكون بضع لحظات يعيشها الحر الرياحي ، بينه و بين نفسه ، يُخيّر نفسه بين الجنة و
النار و من ثًم يُقدم نفسه قرباناً لله تعالى بين يدي الحسين ، تلك اللحظات كفيلة
لكي يحيا ذكره إلى يوم القيامة تتناقل بطولته الأجيال جيلاً بعد جيل .
"أَشْهَدُ اَنَّكَ قُتِلْتَ وَلَمْ
تَمُتْ بَلْ بِرَجاءِ حَياتِكَ حَيِيَتْ قُلُوبُ شيعَتِكَ، وَبِضِياءِ نُورِكَ اهْتَدَى
الطّالِبُونَ اِلَيْكَ" [1]
كيف كانت بضع ساعات في نهار عاشوراء
كفيلة لوضع درساً شاملاً لقيمة الحياة عند بني الإنسان ؟
وقف الحسين بكل عزة و كبرياء قائلاً
"و الله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل و لا أفرّ فرار العبيد"[2]
، هنا وضع سيد الشهداء المعادلة التامة للحياة الكريمة و التي تتكون من مبداً
العزة و الكرامة و الإباء بالإضافة إلى الثبات و السعي الدائم و عدم اليأس .
ينقل عن الإمام علي بن الحسين أنه قال
"كنت أنظر في وجه أبي الحسين ، كلما إشتد عليه الأمر تهلل وجهه فرحاً و
سرورا" ، لم تثنيه المصاعب و المآسي عن المضي قدماً في سبيل نهضته المقدسة و
كان يجاهد إلى آخر ما يملك في سبيل الله عزوجل ، و كما ينقل عنه بعض الرواة
"و الله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جأشاً و
لا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه"[3]
.
في لحظاته الأخيرة و هو متوسد التراب ،
بقي الحسين على ثباته و لم تُثنيه الجراحات و أهوال الموت من هدفه الأعلى . فكان
يناجي ربه ولا يستثغيث بغيره عزوجل . لم يطلب الأمان من أحد و لم يستجدي رحمة غيره
عزوجل . فكان خطابه الأخير مناجاةً لربه ..
"اللهم أنت متعالى المكان ، عظيم
الجبروت ، شديد المحال ، غني عن الخلائق ، عريض الكبرياء .. "[4]
هذا التسليم المطلق لله عزوجل مع
الثبات و الإباء هو الذي خلّد الحسين (ع) في صفحات التاريخ و به وضع معادلة للحياة
.
"فالموت في حياتكم مقهورين ، و
الحياة في موتكم قاهرين"[5]
، قالها علي (ع) في صفّين عندما إستولى جيش معاوية على الماء ، سمعها الحسين و بها
قهر الظالمين جيلاً بعد جيل و بقي حيّاً يُنير نفق الظلام للباحثين عن العز و
المجد و الكبرياء ، و مناراً يهتدي به الطالبون إلى نهج الإباء و الكرامة و طريقاً
يسلكه عُشاق الشهادة في سبيل الحق و الحقيقة .
قام الحسين في عاشوراء
"ليُعلم النوع الإنساني أن الشهادة ليست (خسارة) بل (إختيار) "[6]
، ليعلمنا أن لا قيمة لحياة الإنسان من دون الإرادة و الإختيار ، من دون رفض الذل و
العبودية ، من دون السعي إلى حرية الإنسان و تحرره من طاعة الطاغوت الى الذوبان في ذات الله .
إختار الحسين الشهادة و أقبل عليها بكل
ما يملك [7]
، فكان حيّاً عند ربه [8]
حتى أمسى في يوم عاشوراء و رأسه على الرمح مُعلّم الحياة الأول و علّم بني آدم بأن
بالموت تكون الحياة ، و بالشهادة يكون البقاء .
أحمد خليل لاري
ليلة عاشوراء 1435
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق