الأربعاء، 13 نوفمبر 2013

علّمتنا كيف نحيا

(علَّمتنا كيف نحيا)


مال عن ظهر جواده إلى الأرض ، لم ينحني لأحد و لم يُسقطه أحد ، لكن أعياه نزف الدماء بعد أن وقف كالطود الشامخ يُجبّن الشجعان و جسده مُلطخ بدمه الطاهر ، يبث الرعب في قلوب أعداء الدين و هو وِترٌ غريب أمام عشرات الآلاف من عبد الطاغوت . وقف ذلك الموقف في صحراء كربلاء ، ليُجسد للإنسانية ما معنى الحياة .

هو الحُسين (ع) ، الذي علّم الإنسان كيف يحيا و جسده بين حوافر الخيل ، الذي وهب الحياة لمُحبيه و أتباعه و رأسه على رؤوس الرماح ، هو ذلك الشهيد الذي وقف و رسم للشهادة معنىً آخر . ذلك الشهيد الذي برهن أنه بالشهادة يبقى الإنسان.

ما هي الحياة ؟ و كيف نستطيع أن نضع معياراً لقياس الحياة عند أي فرد كان ؟  قد يعيش الإنسان مئة سنة يقوم بأعمالهم من أكل و شرب و لكن بلا حياة تُذكر ، و قد تكون بضع لحظات يعيشها الحر الرياحي ، بينه و بين نفسه ، يُخيّر نفسه بين الجنة و النار و من ثًم يُقدم نفسه قرباناً لله تعالى بين يدي الحسين ، تلك اللحظات كفيلة لكي يحيا ذكره إلى يوم القيامة تتناقل بطولته الأجيال جيلاً بعد جيل .

"أَشْهَدُ اَنَّكَ قُتِلْتَ وَلَمْ تَمُتْ بَلْ بِرَجاءِ حَياتِكَ حَيِيَتْ قُلُوبُ شيعَتِكَ، وَبِضِياءِ نُورِكَ اهْتَدَى الطّالِبُونَ اِلَيْكَ" [1]

كيف كانت بضع ساعات في نهار عاشوراء كفيلة لوضع درساً شاملاً لقيمة الحياة عند بني الإنسان ؟

وقف الحسين بكل عزة و كبرياء قائلاً "و الله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل و لا أفرّ فرار العبيد"[2] ، هنا وضع سيد الشهداء المعادلة التامة للحياة الكريمة و التي تتكون من مبداً العزة و الكرامة و الإباء بالإضافة إلى الثبات و السعي الدائم و عدم اليأس .

ينقل عن الإمام علي بن الحسين أنه قال "كنت أنظر في وجه أبي الحسين ، كلما إشتد عليه الأمر تهلل وجهه فرحاً و سرورا" ، لم تثنيه المصاعب و المآسي عن المضي قدماً في سبيل نهضته المقدسة و كان يجاهد إلى آخر ما يملك في سبيل الله عزوجل ، و كما ينقل عنه بعض الرواة "و الله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جأشاً و لا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه"[3] .

في لحظاته الأخيرة و هو متوسد التراب ، بقي الحسين على ثباته و لم تُثنيه الجراحات و أهوال الموت من هدفه الأعلى . فكان يناجي ربه ولا يستثغيث بغيره عزوجل . لم يطلب الأمان من أحد و لم يستجدي رحمة غيره عزوجل . فكان خطابه الأخير مناجاةً لربه ..

"اللهم أنت متعالى المكان ، عظيم الجبروت ، شديد المحال ، غني عن الخلائق ، عريض الكبرياء .. "[4]

هذا التسليم المطلق لله عزوجل مع الثبات و الإباء هو الذي خلّد الحسين (ع) في صفحات التاريخ و به وضع معادلة للحياة .

"فالموت في حياتكم مقهورين ، و الحياة في موتكم قاهرين"[5] ، قالها علي (ع) في صفّين عندما إستولى جيش معاوية على الماء ، سمعها الحسين و بها قهر الظالمين جيلاً بعد جيل و بقي حيّاً يُنير نفق الظلام للباحثين عن العز و المجد و الكبرياء ، و مناراً يهتدي به الطالبون إلى نهج الإباء و الكرامة و طريقاً يسلكه عُشاق الشهادة في سبيل الحق و الحقيقة .

قام الحسين  في عاشوراء  "ليُعلم النوع الإنساني أن الشهادة ليست (خسارة) بل (إختيار) "[6] ، ليعلمنا أن لا قيمة لحياة الإنسان من دون الإرادة و الإختيار ، من دون رفض الذل و العبودية ، من دون السعي إلى حرية الإنسان و تحرره من طاعة الطاغوت الى الذوبان في ذات الله .

إختار الحسين الشهادة و أقبل عليها بكل ما يملك [7] ، فكان حيّاً عند ربه [8] حتى أمسى في يوم عاشوراء و رأسه على الرمح مُعلّم الحياة الأول و علّم بني آدم بأن بالموت تكون الحياة ، و بالشهادة يكون البقاء .

                                                                                                                                                                                   
أحمد خليل لاري
ليلة عاشوراء 1435




[1]  المجلسي ، محمد باقر - بحار الأنوار 98 : 337
[2] المقرم ، عبدالرزاق – مقتل الحسين  256
[3]  تاريخ الطبري 6 : 259
[4] المقرم ، عبدالرزاق – مقتل الحسين 282
[5]  الشريف الرضي – نهج البلاغة 159
[6]  شريعتي ، علي – الشهادة 111
[7]  (أعطى  الذي ملكت يداه إلهه ، حتى الجنين فداه كل جنين)
[8]  ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) آل عمران 169

ليست هناك تعليقات: