الخميس، 7 نوفمبر 2013

ما رأيت إلّا جميلا

(ما رأيت إلا جميلا)

في العام الخامس من الهجرة ، أخذ الراية و ذهب مسرعاً إلى نِزال عمرو بن عبد ود . ينقل التاريخ عنه أنه كان مستبشراً و وجهه يتلألأ و هو يًسرع إلى الجهاد في سبيل الله باحثاً عن الشهادة . 
و في كل مرة يعود إلى رسول الله ، بعد ان يفتح الله على يديه الحصون و القلاع ، يعود و يقف بين يديه حزيناً و يقول "أرأيت كيف فاتتني الشهادة يا رسول الله ؟" .

ذاك هو بطل الإسلام وفتاه الأول علي بن ابي طالب (ع) الذي كان لا يرى غير جمال الله عزوجل في كل أعماله [1]. و يستأنس بالموت كإستئناس الطفل بمحالب أمه[2] ، و يرى شهادته في محراب الكوفة و خضاب لحيته من دم رأسه موطنأً من مواطن البُشرى و الشكر[3] . حتى هتف بعالي صوته (فُزت و رب الكعبة).

هذه الروح الكبيرة .. كانت في كربلاء

يقول عباس نور الدين في مقدمة كتاب "لطائف عرفانية" للسيد روح الله الخميني : "أولئك الذين اطلعوا على الكمالات من زاوية أضدادها احتاجوا إلى البحث عن أصولها و الذي أضاء الله قلبه بمعرفة الجمال قبل معرفة القبح و الكمال قبل النقص وجد الكمالات كلها نابعة من أصل واحد" [4].

هكذا كان آل محمد (ص) الذين يلغوا أعلى الكمالات في سيرهم إلى الله عزوجل و كانوا دائماً يرون الله حاضراً أمامهم في كل أعمالهم. فها هو سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (ع) يُناجي ربه في عرفة قائلاً :

"و أنت الذي تعرفت إليّ في كل شي فرأيتك ظاهراً في كل شيء" [5].

من تكن لديه هذه المعرفة التامة بالله عزوجل لا يرى في الوجود غير مظاهر جماله و جلاله . فنراه عندما أراد الإعلان عن نهضته المباركة في مكة المكرمة يقف أمام الناس و يلقي بخطبته التي تحدث فيها عن مصرعه و مقتله ، و يصف الموت كقلادة تزيّن جيد الفتاة .. "خُط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة" [6].

و بقيت تلك الروح الكبيرة تسري بجسده المبارك ، فكان يقف و يخطب في عسكر بن سعد قائلاً ، "إني لا أرى الموت إلى سعادة و الحياة مع الظالمين إلى برما" [7] . فهو (ع) سليل علي و فاطمة و ربيب محمد (ص) ، هذه الأسرة التي كانت أعظم تجليٍ لجمال الله عزوجل.

و قد ألهمت تلك الروحية عند سيد الشهداء بقية أهل بيته و أصحابه في كربلاء ، فكانوا يستأنسون بالموت كجدهم و إمامهم أمير المؤمنين. فذاك القاسم بن الحسن يقف كالجبل الشامخ و يجيب عمه الحسين بعدما سأله عن رأيه في القتل و الشهادة قائلاً : "يا عماه في نصرتك أحلى من العسل"[8]
أما أصحابه فيصفهم الحسين قائلاً : "و الله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلى الأشوس الأقعس ، يستأنسون بالمنية دوني إستيناس الطفل إلى محالب أمه"[9].

يرى بعض علماء الأخلاق أن فضيلة الصبر تأتي على مراحل و غاية الصبر و أعلى مراحله هي مرحلة الرضا التام بقضاء الله. تلك الفضيلة التي تكون نابعة من عظيم مثل الإمام الحسين بن علي و هو على رمضاء كربلاء مناجياً ربه ، "إلهي رضاً برضاك لا معبود سواك" [10] و قد أبدع السيد حيدر الحلي في رسم هذه الملحمة الإنسانية و هو يصف الحسين ساعة إستشهاده :
"ثوى زائد البِشر في صرعة ، له حبّب العزّ لقيانها" .

أما بعد إستشهاده ، فقد بقيت تلك الروحية تسري في دماء أهل بيته ، يستعينون بها زاداّ في رحلة السبي من بلد إلى بلد. في مسجد الكوفة ، تجلّت تلك المعرفة و ذلك الرضا في قلب زينب بنت علي ، فقد سجّل التاريخ بأحرف من ذهب ذلك الحوار الذي جرى بين الطاغية عبيدالله بن زياد و سليلة بيت النبوة :
"كيف رأيت صنع الله بأخيك و أهل بيتك؟" 
فأجابت ، "و الله ما رأيت إلى جميلا ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم" [11].

هؤلاء هم أولياء الله ، لا يروّن في قضاء الله إلا جميلا ، أرواحهم مُعلقة بالملأ الأعلى شوقاً إلى بارئهم . و ليست الشهادة و القتل في سبيل الله إلّا بُراقاً يعرجون به نحو مقعد صدق عند مليك مقتدر[12]، وافدين إلى حضرة جمال الله عزوجل [13].

أحمد خليل لاري
3 محرم 1435



[1] (ما رأيت شيئاً إلا و رأيت الله قبله و بعده و معه و فيه) – مسند الإمام علي (ع) ص150
[2] (و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدى امّه( - نهج البلاغة ص 100
[3] ( يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر و لكن من مواطن البشرى و الشكر) – بحار النوار 69 : 138
[4] لطائف عرفانية ص 9
[5] دعاء الحسين في عرفة – مفاتيح الجنان
[6] بحار الأنوار 44 : 366
[7] ترجمة حياة الإمام الحسين ص 315 – إبن عساكر
[8] أنجال الإمام الحسن (ع) في كربلاء – المرجع المدرسي
[9] ليلة عاشوراء في الحديث و الأدب ص 178 –عبدالله الحسن
[10] تفسير من هدي القرآن ج 12 – المرجع المدرسي
[11] بحار الأنوار 45 : 115
[12] (إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) سورة القمر 54-55
[13] (وافداً إلى حضرة جمالك ، مُريداً وجهك ، طارقاً بابك) مناجاة الراغبين | الإمام زين العابدين (ع) 

ليست هناك تعليقات: