(ما
رأيت إلا جميلا)
و في كل مرة يعود إلى رسول الله ، بعد ان يفتح الله على يديه الحصون و القلاع ،
يعود و يقف بين يديه حزيناً و يقول "أرأيت كيف فاتتني الشهادة يا رسول الله ؟"
.
ذاك هو
بطل الإسلام وفتاه الأول علي بن ابي طالب (ع) الذي كان لا يرى غير جمال الله عزوجل
في كل أعماله [1].
و يستأنس بالموت كإستئناس الطفل بمحالب أمه[2]
، و يرى شهادته في محراب الكوفة و خضاب لحيته من دم رأسه موطنأً من مواطن البُشرى
و الشكر[3]
. حتى هتف بعالي صوته (فُزت و رب الكعبة).
هذه
الروح الكبيرة .. كانت في كربلاء
يقول
عباس نور الدين في مقدمة كتاب "لطائف عرفانية" للسيد روح الله الخميني :
"أولئك
الذين اطلعوا على الكمالات من زاوية أضدادها احتاجوا إلى البحث عن أصولها و الذي
أضاء الله قلبه بمعرفة الجمال قبل معرفة القبح و الكمال قبل النقص وجد الكمالات
كلها نابعة من أصل واحد" [4].
هكذا كان
آل محمد (ص) الذين يلغوا أعلى الكمالات في سيرهم إلى الله عزوجل و كانوا دائماً
يرون الله حاضراً أمامهم في كل أعمالهم. فها هو سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي
(ع) يُناجي ربه في عرفة قائلاً :
من تكن
لديه هذه المعرفة التامة بالله عزوجل لا يرى في الوجود غير مظاهر جماله و جلاله .
فنراه عندما أراد الإعلان عن نهضته المباركة في مكة المكرمة يقف أمام الناس و يلقي
بخطبته التي تحدث فيها عن مصرعه و مقتله ، و يصف الموت كقلادة تزيّن جيد الفتاة ..
"خُط
الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة" [6].
و بقيت
تلك الروح الكبيرة تسري بجسده المبارك ، فكان يقف و يخطب في عسكر بن سعد قائلاً ، "إني لا
أرى الموت إلى سعادة و الحياة مع الظالمين إلى برما" [7]
. فهو (ع) سليل علي و فاطمة و ربيب محمد (ص) ، هذه الأسرة التي كانت أعظم تجليٍ
لجمال الله عزوجل.
و قد
ألهمت تلك الروحية عند سيد الشهداء بقية أهل بيته و أصحابه في كربلاء ، فكانوا
يستأنسون بالموت كجدهم و إمامهم أمير المؤمنين. فذاك القاسم بن الحسن يقف كالجبل
الشامخ و يجيب عمه الحسين بعدما سأله عن رأيه في القتل و الشهادة قائلاً : "يا عماه
في نصرتك أحلى من العسل"[8].
أما أصحابه فيصفهم الحسين قائلاً : "و الله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلى الأشوس الأقعس ،
يستأنسون بالمنية دوني إستيناس الطفل إلى محالب أمه"[9].
يرى بعض
علماء الأخلاق أن فضيلة الصبر تأتي على مراحل و غاية الصبر و أعلى مراحله هي مرحلة
الرضا التام بقضاء الله. تلك الفضيلة التي تكون نابعة من عظيم مثل الإمام الحسين
بن علي و هو على رمضاء كربلاء مناجياً ربه ، "إلهي رضاً برضاك لا معبود سواك" [10]
و قد أبدع السيد حيدر الحلي في رسم هذه الملحمة الإنسانية و هو يصف الحسين ساعة
إستشهاده :
"ثوى زائد البِشر في صرعة ، له حبّب العزّ لقيانها" .
أما بعد
إستشهاده ، فقد بقيت تلك الروحية تسري في دماء أهل بيته ، يستعينون بها زاداّ في
رحلة السبي من بلد إلى بلد. في مسجد الكوفة ، تجلّت تلك المعرفة و ذلك الرضا في
قلب زينب بنت علي ، فقد سجّل التاريخ بأحرف من ذهب ذلك الحوار الذي جرى بين
الطاغية عبيدالله بن زياد و سليلة بيت النبوة :
"كيف رأيت صنع الله بأخيك و أهل بيتك؟"
فأجابت ، "و الله ما رأيت إلى جميلا ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم" [11].
هؤلاء هم
أولياء الله ، لا يروّن في قضاء الله إلا جميلا ، أرواحهم مُعلقة بالملأ الأعلى
شوقاً إلى بارئهم . و ليست الشهادة و القتل في سبيل الله إلّا بُراقاً يعرجون به
نحو مقعد صدق عند مليك مقتدر[12]،
وافدين إلى حضرة جمال الله عزوجل [13].
أحمد خليل لاري
3 محرم 1435
[12] (إنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ
مُّقْتَدِرٍ) سورة القمر 54-55
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق